بالنسبة إلى محبّيه في الولايات المتحدة الأميركية، وفئة من النقاد والمتابعين، شكّلت العروض التي كان بوب ديلان قد أحياها بالعاصمة اليابانية طوكيو، خلال شهر فبراير/ شباط سنة 1978، صدمة وخيبة أمل. أما بالنسبة لسيرته الفنية وتاريخ الموسيقى الجماهيرية بالعموم، فقد مثّل الحدث انعطافة ثقافية مهمة.
من عرف وأحبّ ديلان بوصفه أشبه بشاعر جوال معاصر، يكتب القصائد الجميلة المؤثرة، يلحّنها ويغنيها، يصاحب نفسه على الغيتار بأسلوب الفولكلور الأميركي الشاعري، الهادئ والرقيق، لم يرق له أن يصعد منصة Nippon Budokan، القاعة اليابانية المرموقة، ومعه فرقة موسيقية استعراضية، أشبه بفرق الروك آند رول الموسّعة، حيث تعلو أصوات الغيتارات الكهربائية، ويشتد قرع طبول الدرامز عبر مكبرات الصوت العملاقة، فيما تكافح لكبح جماح الصخب الناجم، آلات أكثر لطفاً وغنائية كالفلوت، والساكسفون، والصوت النسائي المصاحِب، على طراز الغناء الدينيّ الأفروأميركي (Gospel).
أما من جهة ديلان نفسه، فقد أتى خياره هذا نابعاً من حدسٍ ثقافيٍ حيال حتمية التغيير، واعترافٍ بأفول حقبة وبزوغ أخرى. إذ لمّا بدا منتصف السبعينيات يُتوّج عصراً ذهبياً لموسيقى الروك آند رول، أحس الفنان ابن السابعة والثلاثين حينذاك بضرورة التواؤم مع لغة العصر الموسيقية، مُدركاً لواقع أن غناء الاحتجاج الشاعري، بأسلوب البلوز التقليدي، بتوظيفٍ انفرادي للكلمة الساحرة والنغمة الوادعة كما كانت الحال عقدَ الستينيات، لم يعد لينسجم مع ذائقة الشباب الصاعد المحتشد في القاعات الكبرى والصالات الرياضية، الماجن ذي القمصان الضيقة، الشعور والطويلة وسراويل (Bell-Bottom) الضيقة أسفل الخصر، الفضفاضة أعلى الكواحل.
ولا سيما أن عقد السبعينيات بات أصلاً على وشك الانقضاء، وأن ثمة تيارات جديدة ستسود وتقود العقد القادم من خلال الموسيقى الإلكترونية، كالفانك (Funk) الديسكو والهيب هوب (Hip Hop)، تخاطب أجيالاً من المستمعين، قد أمسى ديلان ومجايلوه المخضرمون، كأعضاء فرقة البيتلز والرولنغ ستونز، في نظرهم، بعمر آبائهم.
يحدث كل ذلك في ظل غياب الأسطورة إلفيس برسلي إثر موته المفاجئ سنة 1977 عن 42 عاماً، والفراغ الذي تركه، والسؤال الذي طرحه عن ماذا بعد برسلي؟ لذا، لم يبق أمام التروبادور الأميركي، الشاعر الجوّال، إلا أن يسبر مسارات فنية متمايزة، علّها تُعينه على البقاء في قرن تميّز بالتسارع والحيوية، والنزوع نحو تبدّلات متلاحقة للعادات والتقليعات.
منذ أسبوعين واحتفالاً بمرور 45 عاماً على حدث نيپّون بودوكان، أطلقت كل من شركة كولومبيا وليغاسي وسوني مجتمعةً مجموعة التسجيلات الحيّة الكاملة لعروض 1978 المفصلية في سيرة ديلان الفنية وتاريخ الموسيقى الجماهيرية للقرن الماضي. فقد أجريت هندسة صوت دقيقة وإعادة مزج أصواتٍ رفيع التقنية لأكثر من أربعة وعشرين شريطاً، وثّقت عرضين كاملين استضافتهما القاعة اليابانية على مدار أمسيتين، أُنتجت على ثمانية وخمسين تراكاً، من بينها ستة وثلاثون تصدر إلى السوق الموسيقية للمرة الأولى.
فور سماع التراك الأول، يتناهى الاعتناق اللوني لصوت الروك آند رول، من خلال مقدمة أغنية، A Hard Rain's Gonna Fall، التي كتبها ديلان سنة 1962. تُسمع حبّات المطر خبطّاً هدّاراً على طبول الدرامز. ولئن تتبّع المستمع مضمون الكلمات، فسيُدرك أن مشهدية المطر ههنا ليست بغرض رسم صورة شاعرية، وإنما بثّ نذيرٍ مُحدقٍ بمصير الإنسان، إن لم يعمل على تفادي إشعال الحروب وبذل الجهد الدؤوب في سبيل حماية كوكب الأرض من الخراب والدمار؛ إذ يُقال إن ديلان نظم كلمات الأغنية في ردِّ فعل مباشر متزامن حيال أزمة نشر الصواريخ النووية السوفييتية في كوبا بمحاذاة الولايات المتحدة، كادت تؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة، من شأنها أن تنهي الحضارة.
في التراك 25 وتحت عنوان، Don't Think Twice, it's All Right، تُختبر عوالم موسيقى الكاريبي، أو ما يعرف بـ Reggae الذي شاع عالمياً بوهج الأيقونة بوب مارلي، والذي بدوره قد ضمّن أغانيه مضامين سياسية ورسائل احتجاجية. من الناحية الأسلوبية، يسعى ديلان إلى المزج والعبور بين الريغي والبلوز، عبر توظيف إيقاع الكاريبي الثنائي المعروف وآلاته التقليدية كالكونغا والبونغو، لكي تدخل في حوار بنكهة الجاز، مع آلة فلوت تؤدي ارتجالات رشيقة زخرفية، في حين يُغنّي هو بشخصيته البلوزيّة المعهودة. بذلك، وعوضاً عن تبنّي نهج الريغي بشكل كُلّي، يُبدع خليطاً تجاوزيّاً، مُبدّياً هوية الفنان على الهوية الصافية للفولكلور.
لئن سعى دوماً إلى الاحتفاء وإظهار الولاء لمهده الثقافي، فقد اعتاد ديلان خلال معظم حفلاته وتسجيلاته، على إعادة تقديم بعض أغاني البلوز الخالدة بطريقة Cover، أي حين يؤدي الفنان بأسلوبه أغنية لغيره. من خلال ما وثّقته المجموعة المُصدرة حديثاً، لا يبدو أن بودوكان كانت استثناء.
واحدة من كلاسيكيات البلوز أغنية، Love Her With A Feeling، احتلت التراك الـ31. منذ أن كتبها وسجّلها تامبا ريد سنة 1938، تعاقب على غنائها عدد من نجوم البلوز والبوب الكبار، تظلّ من أشهرها نسخة فريدي كينغ سنة 1961. أما في نسخته اليابانية، التي لم تُنشر من قبل الإصدار الأخير، يظهر ديلان كمن يصون أصالة البلوز من خلال خشونة الضرب الإيقاعي، وفحولة الأسلوب الغنائي الممزوجة بالحسرة والإحساس بالعزلة، تُصاحب بارتجالات الساكسوفون والبيانو، مع مؤازرة جوقة الغوسبل النسائية. وإن تبقى جميعها، مكونات موسيقية ضمن بيئة البلوز الطبيعية.
لعل بوب ديلان لم يكن ليُعمّر فنياً طويلاً، فيغدو من بين الكبار في تاريخ الموسيقى والشعر الأميركيين، ويُمنح جائزة نوبل للآداب سنة 2016، لو لم تكن لديه المقدرة على التقاط روح العصر وحسن الاستجابة لذائقة معاصريه من مُبدعين ومُستمعين. فبالنسبة إلى الفنان الأصيل، ثمة دوماً معيار دقيق يحقق التوازن ما بين العناد الفني، الذي يُحافظ على الأصالة الذاتية ويحميها من الغرق في عباب السائد، والمرونة الفنية التي تساعد على التجدد، فتوفّر فرص البقاء الفني، ومجموعة تسجيلات بودوكان الأخيرة لخير دليل.