عشتار ياسين غوتيريز، مولودة في موسكو من أب عراقي وأم تشيلية، أصولها كوستاريكية. الأب، بعد مغادرته العراق مُجبراً، عاش معهم فترة من حياته في سانتياغو، لكنّه اضطرّ إلى ترك البلد، بعد انقلاب الجنرال أوغستو بينوشيه ضد الرئيس سلفادور الليندي. حينها، لم تجد الأم مخرجاً سوى أخذ طفلتها معها إلى كوستاريكا. بعد سنوات، عادت الصبية لتُكمل دراستها في موسكو، فيما الأب يعيش منفاه في لندن. في مرحلة قصيرة من حياتها، اجتمعت به في الدنمارك. بعد رحيله، قرّرت السفر إلى العراق، لتتعَرّف على البلد الذي ضاع من والدها، كما ضاعت تشيلي منها.
الآن، بعد إنهائها صنع فيلمٍ عن حياتها وحياة عائلتها، هل يُتوقَّع ألا يأتي مشابهاً لها، مُشتتاً وموزَّعاً بين أماكن وجغرافيات وحيوات متناثرة، كحياتها؟ وثائقيها "بلادي الضائعة" (2022) يشبه حياتها، وحيوات من عاشت معهم، بالكاد تمسك خيطاً ضعيفاً يربط بينها، وتجعله وسيلة، تعيد بها، سينمائياً، ترتيب مساراتها المضطربة.
نسيج خيطها الرابط خليطٌ من ذكريات بعيدة شبحية عن والدها، المخرج المسرحي والفنان العراقي محسن سعدون، حين كان يعيش معهم في تشيلي، وبعض رسائل كتبتها له في طفولتها، تسأله فيها عن حياته وبلده/بلدها، الذي تتمنى زيارته، ورؤية جماله وتاريخه. فبمنحه لها اسم عشتار، إلهة الحبّ والجمال في أساطير بلاد ما بين النهرين، أراد أنْ يربطها بتلك البلاد طيلة حياتها.
من خامات سينمائية شحيحة (ألبوم صُور عائلية، مراسلات مكتوبة، تسجيلات فيلمية قديمة (فيديو)، قصاصات صحف)، تصنع عشتار تاريخاً عائلياً، به تسرد فصولاً من حياة والدها، الذي ترك بلده هرباً من بطش السلطات، وظلّ في منفاه عقوداً، لم يرجع فيها إليه. مات ودُفن بعيداً عن الأرض التي أحبّها، وتمنّت هي العيش فيها يوماً ما، معه.
من القليل الذي عندها، تصنع عالماً سينمائياً زاخراً بالأحداث والتواريخ والقصص الشخصية الحميمية. لم تترك وسيلة بصرية وسمعية إلا واستخدمتها لسرد قصة والدها، وأخرى تتشابك معها. تستثمر قدرات الصنعة السينمائية لإعادة تجميع المتباعد والمتفرّق بالتوليف (التوليف لها، كما التصوير)، والموسيقى (خالد الراوي)، خالقةً مناخات حسّية تقارب مناخات أميركا اللاتينية والشرق، أحياناً تستعيدها بتمثيل مشاهد متخيّلة لحياة أخرى مترجاة، إلى جانب الرغبة المتحقَّقة في الحضور إلى المكان/الجذر، للشروع منه في ترتيب مسارات حياة سعدون، من نهاياتها إلى بداياتها، لا العكس.
من قاعة المسرح، الذي قدّم فيها والدها أول أعماله؛ ومن بناية المعهد الذي دَرَس فيه طلابه؛ تبدأ سرد قصة متخيّلة، أرادت أنْ تحكيها له في طفولتها، لكنّ الزمن فرّق بينهما، وباعدت المسافات من دون إكمالها. كما باعدت بينه وبين "بلاده الضائعة". قصص تعيد صوغها بخيال سينمائي متحرّر من قيود الصنعة، من دون إسراف في التشظّي، أو إيغال في الإيهام. الحكي الشفاهي عند عشتار مُقتصد، لأنها ترى في السينما لغة حسّية كلغة الموسيقى، تجبر الحاضرين في قاعات عرض أفلامها على الصمت والإصغاء، كما يصغون بصمت في حضور الأوركسترا.
تجمع في وثائقيّها قصة بلدين ضاعا: تشيلي والعراق. هو أضاع وطنه لموقف سياسي، ظلّ مخلصاً له؛ وهي أضاعت بلدها يوم هجرت والدتها تشيلي إلى كوستاريكا، هرباً من نظامٍ فاشي.
لا تحاكم الشابّة تاريخ والديها، بل تجعل من الرغبة في الجمع بينها وبينهما هاجساً للمضيّ نحو تخوم الانتماء إلى المكان، لأنّها تريد بمعرفته إكمال مسارات حياتها المقبلة. الاشتغال السينمائي على فكرة التكامل الروحي، واستحضار الأمكنة المتباعدة والمتخيّلة أحياناً، يدعو إلى التأمل في قدرة السينما على خلق حيوات تجاور أخرى. ربما لهذا السبب منحته الدورة الـ35 (9 ـ 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا)" جائزة المساهمة الفنية البارزة.
في اشتغالها، لا تبالي عشتار ياسين غوتيريز بالانتقال من مشهدٍ إلى آخر، من دون تمهيد درامي، أو تحضير مكتوب. فما تراه في الواقع أكثر فوضى من التي تسبّبها في فيلمها. في هذه الحالة، لا بأس من إرهاق مُشاهد "بلادي الضائعة"، ما دام يريد معرفة عالم مختلف، مليء بالأسى والخسارات. عالم لا مستقر لأبطال تراجيديين، يرحلون من مكان إلى آخر، حاملين أحزانهم معهم، كما كان يفعل والدها: يهجر مكاناً ليحلّ في آخر، مؤسّساً فيه العالم الذي يحبه، المسرح، ثم يمضي إلى غيره، سعياً منه إلى أنْ يكون له معنى فيه.
يجد مشاهد "بلادي الضائعة" فصولاً غير معروفة عن والدها المسرحي، يقدّم فيها إنجازات مسرحية بلغات مختلفة، ويعرضها في بلدان بعيدة عن البلد الذي ولد فيه. تجيد عشتار اللعب على اللغات، لتحقّق المزيد من التشتت، الذي يعكس فوضى حياة عاشتها مع عائلتها. لكلّ لغة عالمها، يقتحمها غرباء يتحدّثون بها، ويصنعون عوالمهم الجديدة فيها. هكذا صنع والدها مسرحه، المتنقّل معه، بلغاته التي لا تشبه لغته الأم. لولاها لما اكتسبت سيرته معاناها الحقيقي، وما كان للنَفَس الشعري أهمية في اشتغالها السينمائي، المخلوط فيه الشعر مع الموسيقى، والمسرح بالأسطورة التي طالما تغنّى بمقاطع منها، ظلّ يردّدها طوال حياته، كما كان يردّد أغنية شعبية يحبّها كثيراً، ولا يدري لماذا لم تفارق ذاكرته أبداً. ربما لأنّها تذكّره بفكرة الحياة والموت، وحتميتهما.
لا تنهي عشتار ياسين غوتيريز قصتها في العراق، بزرع شجرة في أرض بابل، بل بمشهدٍ لنهر دجلة، وقت مغيب الشمس، والناس يعبرون جسراً صغيراً فوقه. يبدون من بعيد كأنّهم أشباح تسير نحو المجهول. مشهد يذكّرها بوصف والدها لنهر مدينة بغداد التي أحبها، وتريد استعادته اليوم بخيال سينمائي، مشحون بأسئلة وحيرة، تقارب الحيرة التي وصفتها الروائية إيزابيل ألليندي، في رواياتها "بلدي المخترع" (ترجمة رفعت عطفة، دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2004). الفرق بينهما أنّ السينمائية عادت إلى بلدٍ لم تعرفه من قبل، وربما ستخوض تجربة فيه لا تشبه بالضرورة تجربة والدها. لكنّ الروائية عادت من مهجرها إلى وطنٍ، عاشت فيه زمناً، وعندما رجعت إليه لم تجده كما تركته. ضاع منها، كما ضاع العراق من الفنان محسن سعدون.