سلّط التحقيق الذي نشرته صحيفتا "هآرتس" و"ذي ماركر" الإسرائيليتان الأسبوع الماضي بالتعاون مع صحف أوروبية، حول أنشطة شركة "طاقم خورخي" الإسرائيلية التآمرية في العديد من الدول، الأضواء مجدداً على الدور الذي تلعبه شركات السايبر الإسرائيلية في إثارة الفوضى السياسية والتأثير على البيئات الحقوقية والاقتصادية في الكثير من دول العالم.
وإن كان تحقيق "ملف خورخي"، قد وثق إقدام الشركة الإسرائيلية على لعب دور فعلي ومباشر في أنشطة تآمرية على الصعيد السياسي والاقتصادي في العديد من الدول بناء على تعاون مع أنظمة حكم أو جهات اقتصادية، فقد تبين أن شركات سايبر إسرائيلية أخرى لعبت مثل هذا الدور بشكل غير مباشر من خلال تزويد أنظمة حكم ببرمجيات تجسس سيبرانية لاستخدامها في تعقب معارضين وناشطين ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها.
نشاط "طاقم خورخي"
أثبت التحقيق حول "طاقم خورخي" أن الشركة التي يديرها الأخوان طال وزوهار حنان، وزميلهما ميشي ميدان، ويقع مقرها في مستوطنة موديعين الواقعة بين مدينتي القدس واللد، قد لعبت دوراً مهماً في التأثير على 33 معركة انتخابات رئاسية، وعدد من الاستفتاءات التي نظمت لحسم قضايا سياسية في العديد من دول العالم، عبر استخدام برنامج "أفاتار" واعتماد نشر الأخبار الكاذبة في محاولة لتحقيق أهداف الجهات التي تعاقدت معها هذه الشركة مقابل المال. حسب التحقيق، فقد شمل مجال عمل الشركة قارات عدة، حيث عملت، على سبيل المثال، على اختراق هواتف قادة حزب المعارضة الرئيسي في نيجيريا في 2015، ومحاولة التأثير على نتائج الاستفتاء الشعبي حول استقلال إقليم كتالونيا عن إسبانيا عام 2014، وشن هجوم سيبراني على لجنة الانتخابات المركزية في إندونيسيا في 2019.
استهداف "ميتا"
لكن في الواقع، فإن شركة "طاقم خورخي" لم تكن شركة السايبر الإسرائيلية الوحيدة التي عملت بشكل مباشر في مجال التآمر السياسي عبر توظيف برمجيات التجسس واستهداف أطراف وكيانات في دول العالم. ففي ديسمبر/ كانون الأول 2021، حجبت شركة ميتا (المالكة لفيسبوك وإنستغرام) حسابات تابعة لشركات سايبر إسرائيلية بعدما تبين أن هذه الشركات شنت هجمات إلكترونية على منصاتها، عبر استهداف حسابات مئات آلاف الأشخاص في أكثر من 50 دولة حول العالم.
وحسب ما ذكرته صحيفة "كالكيلست" الاقتصادية الإسرائيلية وقتها فقد بررت الشركات الإسرائيلية هجماتها هذه بأن الكيانات والأفراد الذين تم استهداف حساباتهم على هذه المنصة مرتبطون بجماعات "إرهابية". وأشارت الصحيفة إلى أن من بين الشركات التي حجبت حساباتها، شركة "سيتروكس" التي تتخذ من إسرائيل ومقدونيا مركزاً لأنشطتها، وكذلك شركات: "تكنولوجيز"، وكوبويبس"، و"بلوهوك"، و"سي آي بلوهوك". ولفتت الصحيفة إلى أن الشركات الإسرائيلية أقرت بأنها هاجمت الحسابات على"فيسبوك" و"إنستغرام" بناء على طلب دول زعمت أن هذه الحسابات تعود إلى كيانات أو أشخاص متورطين في أنشطة إرهابية.
حجبت ميتا حسابات تابعة لشركات سايبر إسرائيلية بعدما تبين أنها شنت هجمات إلكترونية على منصاتها
وقد أكدت شركة ميتا أن الشركات الإسرائيلية عملت في الواقع لصالح أنظمة حكم بهدف تعقب معارضين وحقوقيين. في السياق نفسه فإن الخطوة التي أقدمت عليها شركة ميتا تؤكد دور الشركات الإسرائيلية في محاربة المحتوى الفلسطيني على مواقع التواصل وتحديدا على "فيسبوك". ويمكن الافتراض أن الشركات الإسرائيلية التي نشطت تحديداً على "فيسبوك" استخدمت حسابات باللغة العربية في محاولاتها محاربة المحتوى الفلسطيني من خلال التشكيك في الرواية الفلسطينية ومحاولة منح صدقية للرواية الإسرائيلية.
التآمر السياسي
المجال الثاني الذي تنشط فيه شركات السايبر الإسرائيلية يتمثل في لعب دور في التآمر السياسي والتأثير على البيئات الداخلية في الكثير من الدول بشكل غير مباشر، عبر تزويد برمجيات التجسس التي تنتجها إلى حكومات كي تستخدمها في تعقب ومطاردة المعارضين والصحافيين والحقوقيين من المواطنين، وتوظيف هذه البرمجيات في الحصول على "أدلة" تدين هؤلاء وتسوغ محاكمتهم ومعاقبتهم؛ فضلاً عن أن حكومات محددة استخدمت هذه البرمجيات في التآمر على حكومات دول أخرى.
وقد لعبت شركتا سايبر إسرائيليتان دورا مركزيا في هذا النوع من الأنشطة، وهما، شركة NSO التي تنتج برمجية بيغاسوس، وشركة "إنتليكسا"، التي انتجت برنامج "بريدتور".
وقد نشرت صحف إسرائيلية وأميركية عدداً كبيراً من التقارير حول دور هاتين الشركتين في تزويد العديد من أنظمة الحكم، وبعضها أنظمة عربية، ببرمجيات التجسس بهدف استخدامها في تعقب المعارضين وقوى المجتمع المدني والإعلاميين.
وحسب صحيفتَي "هآرتس" و"كالكيلست" فإن تزويد شركة "أن أس أو" لعدد من أنظمة الحكم العربية ببرمجية بيغاسوس قد سبق التوصل لاتفاقات التطبيع في 2020. وقدمت "هآرتس" تحديدا تفاصيل كثيرة حول المفاوضات التي أجرتها العديد من الأنظمة العربية مع ممثلي الشركة في دول أوروبية بهدف الحصول على "بيغاسوس"؛ حيث ربطت الصحيفة بين هذا التطور وبين تعاظم التعاطي القمعي لهذه الأنظمة مع جمهورها الداخلي.
تزويد شركة "أن أس أو" لعدد من الأنظمة العربية ببرمجية بيغاسوس سبق التوصل لاتفاقات التطبيع في 2020
لكن بخلاف "أن أس أو" التي يقع مقرها في مستوطنة هرتسليا، شمال تل أبيب، فإن شركة "إنتليكسا" تعمل انطلاقا من مقدونيا، كما كشفت صحيفة "يديعوت أحرنوت" في سبتمبر/أيلول العام الماضي. وحسب "يديعوت أحرنوت"، فإنه في الوقت الذي تصدّر NSO برمجية "بيغسوس" إلى دول بناء على إذن مسبق من وزارة الأمن الإسرائيلية، فإن شركة "إنتليكسا" تصدر برنامج "بريديتور" إلى دول من دون الحاجة إلى الحصول على إذن من وزارة الأمن الإسرائيلية لأنها تعمل خارج فلسطين المحتلة. وحسب الصحيفة، فقد زوّدت "إنتليكسا" برنامجها التجسسي للسودان، وبنغلادش وأوكرانيا وغيرها. وتُخضع إسرائيل سماحها لشركات السايبر بتصدير برمجيات التجسس إلى اعتبارات سياسية واستراتيجية. فحسب صحيفة "هآرتس" فإن الحكومة الإسرائيلية سمحت لهذه الشركات بتزويد دول ببرمجيات التجسس حتى تتمكن تل أبيب من إقناعها بالتصويت لصالحها في المحافل الدولية على القرارات المتعلقة بالصراع مع الشعب الفلسطيني.
استخدام ضد الفلسطينيين
وإذا كانت الضجة أثيرت حول برمجيات التجسس الإسرائيلية لأنها استهدفت أيضا مصالح دول غربية، ما جعل وزارة التجارة الأميركية تضع شركة NSO على القائمة السوداء، فإن صحيفة "كالكيلست" قد أكدت في تقرير نشرته في مارس/آذار 2022 أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية استخدمت "بيغاسوس" ضد الفلسطينيين على نطاق واسع قبل وقت طويل من الكشف عن هذا البرنامج. ومن بين أنماط توظيف هذا البرنامج، أشارت الصحيفة إلى أن إسرائيل استخدمته في التجسس على المحامين والحقوقيين الفلسطينيين الذين يلعبون دوراً في إعداد ملفات لتقديمها للمحاكم الدولية بهدف اقناعها بمحاسبة إسرائيل على ارتكابها جرائم حرب. ومن البديهي الإشارة أيضاً إلى أن إسرائيل استخدمت هذه البرامج وما تزال ضد حركات المقاومة الفلسطينية بهدف إحباط عملياتها وإعاقة قدرتها على مراكمة القوة العسكرية.
مسؤولية إسرائيل
وتدل كل المؤشرات على أن إسرائيل كـ "دولة" تتحمل مسؤولية كبيرة ومباشرة عن نتائج استخدام هذه البرمجيات التجسسية.
فشركات السايبر التي تعمل داخل الأراضي المحتلة تخضع لإشراف وزارة الأمن الإسرائيلية وتصدر برمجياتها وتمارس أنشطتها المختلفة بعد الحصول على إذن مسبق من حكومة تل أبيب مما يجعل الأخيرة شريكاً في الجرائم التي ترتكبها هذه الشركات. كما يلعب الجهاز القضائي الإسرائيلي دوراً مهما في توفير بيئة قانونية تسمح لشركات السايبر بممارسة أنشطتها التي تتعارض حتى مع القانون الإسرائيلي ذاته. فعلى سبيل المثال، تتعارض أنشطة التآمر السياسي والتأثير على الانتخابات التي تبين أن شركة "طاقم خورخي" تمارسها من داخل إسرائيل، مع القانون الإسرائيلي. لكن نظراً لأن المستهدف هي جهات خارجية، فإن الجهاز القضائي الإسرائيلي يتجاهل سلوك هذه الشركات.
لكن مما لا شك فيه أن أكثر ما يجعل إسرائيل كـ "دولة" مسؤولة عن نتائج أنشطة شركات السايبر الهجومية حقيقة أن مؤسسي جميع هذه الشركات ومعظم العاملين فيها هم من خربجي أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وتحديداً المتسرحين من وحدة التجسس الإلكتروني التابعة للاستخبارات العسكرية، والمعروفة بـ "وحدة 8200".
وقد حصل مؤسسو هذه الشركات والعاملون فيها على التأهيل المهني من خلال الخدمة في هذه الوحدة. فشيلو حوليف، مؤسس شركة "أن أس أو" كان ضابطاً في الوحدة، كما أن طال ديليان، مؤسس شركة "إنتليكسا" سرِّح من نفس الوحدة كضابط برتبة عقيد.
وعلى الرغم من أن منظمات حقوقية دولية قد أصدرت البيانات والتقارير حول دور شركات السايبر الإسرائيلية وتحديدا NSO في المس بحقوق الإنسان في كثير من دول العالم بفعل توظيفها من قبل أنظمة الحكم في التعدي على أبسط الحقوق الأساسية للمواطنين، إلا أن أنشطة الشركة قد حظيت بالتشجيع من قبل إسرائيل ذاتها. فقد منحت إسرائيل الإثنين الماضي جائزة "يروشليم للأمن" لهذه الشركة لدورها في "تعزيز أمن إسرائيل". وقد عرضت المؤسسة التي منحت الجائزة للشركة فيديو على موقعها ظهر فيه مديرها شيلو حوليف، وهو يتحدث عن "إنجازاتها"، حيث ادعى أن برمجيات هذه الشركة ساعدت إسرائيل والكثير من دول العالم في مواجهة "الإرهاب"، مع أن الأغلبية الساحقة من ضحايا هذه البرمجيات معارضون سياسيزن.