"بالغ": بساطة بصرية تُجيز التفكير بتعقيدات الوجود

26 يوليو 2024
"بالغ": بساطةٌ إنتاجيةٌ وسردية (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **استكشاف العلاقة بين الآباء والأبناء:** المخرج الأرجنتيني مارينو غونزاليس يستكشف العلاقة المعقدة بين الآباء والأبناء في أفلامه مثل "لوس غلوبوس" و"رعاية الآخرين" و"بالغ"، حيث يسعى الأبناء للاستقلال مما يؤدي إلى تصادمات وسوء فهم.

- **أسلوب سينمائي بسيط:** غونزاليس ينقل هذه الحالة بأسلوب سينمائي بسيط ومشبع بروح لاتينية، مركزاً على تفاصيل الحياة اليومية للمراهق أنطونيو الذي يضطر لترتيب شؤونه بعيداً عن والده بعد حادث سير.

- **تفاعل المشاهد:** فيلم "بالغ" لا يتبع مساراً سردياً تقليدياً، مما يعزز تفاعل المشاهد مع النص السينمائي ويجعله يشارك في تخيل الأحداث وفهم دور الأفراد فيها.

 

يواصل الأرجنتيني مارينو غونزاليس (1977) بحثه في الحالة الوجودية، دائمة الالتباس بين آباء وأبناء، التي يصعب حسم تقييمها خارج التوصيف التقليدي، بكونها حالة طبيعية، يريد الأبناء، حال بلوغهم سِنّ المراهقة، شقّ طريقهم الخاص في الحياة، بعيداً عن سلطة العائلة، فيختارون، للتعبير عن تلك الرغبة الغريزية، أساليب تعبير وسلوكيات مرتبكة، تؤدّي غالباً إلى تصادمات وسوء فهم، يُترك للزمن وحده تصحيح المسارات بين الطرفين.

هذه الحالة الوجودية المعقّدة يهتم بها ويعالجها غونزاليس سينمائياً في "لوس غلوبوس" (2016) و"رعاية الآخرين" (2019)، وفي "بالغ" (2024) أيضاً، الفائز بجائزة لجنة تحكيم الدورة الـ26 (14 ـ 23 يونيو/حزيران 2024) لـ"مهرجان شنغهاي السينمائي الدولي". يتناولها من منظور مختلف. يضع السيناريو (كتابة المخرج) الآباء في موضع تساؤل، حين يتخلّون عن مسؤولياتهم العائلية والأخلاقية. وبدلاً منهم، يتولّى أطفالهم تصحيح خطاياهم، فيبدون في المشهد الحياتي، الذي يجسِّد مواقفهم، كأنّهم مراهقون، باتوا بالغين قبل الأوان.

هذا المشهد الوجودي، الحاوي ضمناً لرؤى فلسفية ونفسية شديدتي التعقيد، ينقله غونزاليس بأسلوبه السينمائي البسيط والمشبع بروح لاتينية لا تفارقه.

ببساطةٍ إنتاجية وسردية، ينقل جانباً من المشهد المعقّد، لكنّه لا يدّعي الإلمام به كاملاً. لذا، يقترح على المُشاهد مشاركته في وضع تصوّره الخاص لحالة المراهق أنطونيو (ألفونسو غونزاليس ليسكا، ابن المخرج الممثل في "لوس غلوبوس" أيضاً) الذي يجد نفسه في وضع صعب، إثر تسبّب والده في حادث سير، يقلب مسار حياته فجأة، ويجبره على ترتيب شؤونه بعيداً عنه. هذا الوضع يفرض حضوراً دائماً للمراهق أمام الكاميرا، التي بالكاد تفارقه عدساتها للحظات.

ملازمة قريبة لصبي وحيد (14 سنة)، تتكشّف عبرها انفعالاته النفسية والعاطفية، يعمل الاشتغال السينمائي على تقريبها من الواقع، وتحميلها أحياناً بُعداً وثائقياً. وبفضل ترتيب تفاصيلها اليومية، المقاربة للواقع، يتولّد عند المُشاهد إحساس بأنّ ما يعرض أمامه نقلٌ حيّ لحياة عائلة أرجنتينية فاقدة مركزها. الغياب التام للأم من حياة الصبي لا أحد يلتفت إليه، لأنّ الكتابة السينمائية تركت تصوّر أسباب غيابها للمتلقّي، ليضع بنفسه أسباباً متخيّلة له، طالما أنّ قصة الصبي مكتفية بذاتها، وقادرة على عكس حالة غياب أخرى من داخلها.

لا يتبع "بالغ" مساراً سردياً تقليدياً. في رهان على مخيلته، يُترك للمُشاهد تصوّر الحالة التي تسبق مَشاهد كثيرة معروضة أمامه من دون ربطها بما يسبقها. كأنّ النص يفترض مسبقاً بأنّه على دراية بها، وقادر على تتبع مساراتها، طالما أنّه مشاركٌ في تخيّل الأحداث، ويعرف سلفاً دور الأفراد فيها. التواتر البصري يبرّر ذلك الرهان الصعب، ويعزّز مصداقيته، ما دام لا يُربك المتلقّي، ولا يؤخّره عن ملاحقة الأحداث.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

على هذا الأساس، لم تعد مُهمّة معرفة طبيعة عمل الأب راؤول (خوان مينوجين). يكفي أنّه يغيب طويلاً عن البيت، تاركاً ولده وحيداً في المنزل، يُكمل واجباته المدرسية. أحياناً، تساعده اليوسا (كاميلا بيرالتا)، التي ترعى جارتهم العجوز. يبيت ليالٍ في منازل أصدقاء، وفي ليالٍ أخرى يبيتون عنده. لمعرفة جانبٍ من شخصية الأب، يظهر أنطونيو في مشهد قصير راكباً خلفه على درّاجته النارية، تتبعهم سيارة شرطة. ينزل الأب منها ويهرب، تاركاً ابنه مع رجال الشرطة. على سلوكه ذاك، يُبنى تصوّر دقيق عن ضعف شخصيته وتهرّبه من مواجهة مشاكل، يتسبّب بها لنفسه وللآخرين.

في كلّ مشكلة يسبّبها الأب، هناك حاجز يمنع سماع ولده بها مباشرة. يأتي هذا لقناعة بأنّ أنطونيو لا يزال طفلاً، وينبغي عدم نقل الحقيقة إليه خوفاً من عجزه عن فهمها. بعد سماعه متأخّراً بحادث اصطدام الدرّاجة النارية لوالده بطفلة صغيرة، قيل له إنّه حادث عرضي جرّاء اصطدامه بكلب واقف في الطريق. بإلحاح، يريد معرفة حالة الكلب بعد الحادث، لإحساسه بكذب والده عليه. عندما يتأكّد خبر دخول راؤول المشفى، ونقله منها إلى مركز الشرطة، يصبح الصبي وحيداً، وعليه تدبير أموره بنفسه.

هذا يقوده إلى ارتكاب أخطاء. يسرق مع زملائه مواد غذائية من متجر قريب، ليبيعها إلى جيرانهم فيؤمّن عيشه، ويصلح الدرّاجة المعطوبة. في غياب والديه، يواجه مشاكل وجودية يفرضها واقع أرجنتيني غير سَوٍ وقاسٍ. لكنّه يتعامل معها بحكمة وصبر. إحساسه بالمسؤولية يدفعه إلى الاعتراف أمام والده بسرقاته الصغيرة، ثم يذهب إلى بيت الطفلة للاطمئنان عليها. بخروجه من بيتها، يعلن تصالحه مع نفسه، ويتطابق سلوكه مع دواخله النقية. هذا لم يفعله والده معها، في مفارقة تحيل إلى التفكير في العلاقة الملتبسة بين ذوات مختلفة التكوين، في العائلة الواحدة.

هل يؤشّر سلوك الصبي على نقاء داخلي لا صلة له بالتربية العائلية؟ سلوك يعود إلى خصلةٍ فطرية فيه؟ بَحثُ غونزاليس فيها عبر دواخل الصبي وسلوكه يحيل النصّ السينمائي إلى مبحث اجتماعي ـ نفسي معقّد، بساطة السرد تعين على تأمّله. الاشتغال السينمائي البارع يدعو إلى تفكير في فنّ السينما، الذي يأتي يومياً بأنساق تعبير بصرية جديدة، ومن جهات بعيدة عن مراكز الإنتاج الكبرى، لتعلن أنْ لا حدود ولا قيود على مخيال يجمع بين البحث العميق في تعقيدات الوجود البشري، والتعبير عنها بالصورة السينمائية الجميلة والبسيطة.

المساهمون