احتفالٌ، نقدي وشعبي ودعائي، لا تغفله عين في فرنسا، رغم فشلٍ مُعلن في الولايات المتحدة الأميركية. في حوار تلفزيوني ترويجي لـ"بابل" (2022)، لداميان شازيل، ظهر براد بيت متألّقاً ومبتهجاً، ومُردّداً أوصافاً للفيلم، كجنون وحدود قصوى وإثارة وخبل، وكلّ ما يعكس عبثاً، يذهب إلى حدّ الإفراط. كأنّ مسرحه سوق، أو خان صاخب، تمتزج فيه مكوّنات من كلّ لون وجنس، وتسوده حركة صاخبة لا تهدأ، وأصوات ضاجة، لا تكلّ ولا تملّ.
"بابل" مصطلحٌ يستخدم للدلالة على مكانٍ تسوده ضوضاء، وتنتشر فيه فوضى. إضافة إلى كلمات بِيتْ، أكّدت لقطاتٌ دقّةَ وصفه، وأضافت المزيد: خفةٌ، وشيءٌ من عربدة. هذا تماماً ما أنبأتْ به نصف الساعة الأولى. جنون مطبق، وإيقاع لاهث، وكاميرا نطّاطة، و"نوادر" مُستفِزّة. بدا أنْ لا حَدّ للإفراط في التعبير، في الفجور والانحلال والفساد. دقائق طويلة مرّت، من دون أحداث، بل "طرائف"، هدفها الدفع نحو أقصى ما يمكن للمخيلة أنْ تتفتّق عنه، لتعبِّر عن رعونة هذا العالم الهوليوودي الذي يرتاد حفلةً نظّمتها شخصية مشهورة، لا يهمّ إنْ كانت مُقززة، كبراز فيلٍ يندلقُ بكثافة على بشرٍ مذهولين، أو استفراغ ممثلين، أو كانت سوقيّة وصادمة. كأنّ الفيلم مكرسٌ لاسترسالٍ مملٍ لصُوَرِ عربدةٍ وفسق، يعيشهما أهل المهنة، زمن السينما الصامتة، عام 1926 تحديداً.
مع بدايةٍ كهذه ـ بكثرة مفاجآتها المُرهقة بابتذالها، كأنّها فيلم هزلي لا يدع لحظة استرخاء من دون إضافة المزيد، إلى أنْ يتوقّف الضحك، ومعه الدهشة، بعد حينٍ ـ يُطرح سؤال: ماذا بعد؟ أين بابُ الخروج من الصالة؟ يُشبع ذلك فضولاً، لكنّه لا يُرضي ذائقةً، ولا يصنع فيلماً. لكنْ، رغم إمكانية الهرب، هناك شيءٌ يحثّ على البقاء. ليس جاك كونراد (براد بيت) وحده طبعاً، ولا ماني توريس (دييغو كالفا)، وحضورهما الآسر، أو نيلّي لا روي (مارغو روبي)، بسوقيّتها المذهلة. إنّه الفيلم بحدّ ذاته. ماني ـ المراقب والشاهد على كل ما سبق، والمعدّ لبعضه بحكم عمله ـ كان الشخصية الوحيدة الهادئة والعاقلة، إلى حدّ ما، بين كلّ هؤلاء المجانين. إنّه ذو أصل مكسيكي، مجنون بحبّ السينما، ويعمل مؤقّتاً سكرتيراً لشخصية نافذة في هوليوود. لا شيء يصعب عليه، حتى إحضار فيل للحفلة إياها. كلّ ما لا يخطر على البال، لتسلية نخبة هوليوود: عري وفيل ومخدرات وسُكر ومؤمرات وجنس ورقص ومجون ومزاح ومكائد وسيارات فخمة، ونجوم مشهورون، وآخرون يبحثون عن المجد.
في استرسال زائد، يُراوح "بابل" مكانه، رغم إيقاع مرهق بعجلته، من دون تطوّر في السيناريو. يستمر في لقطات تالية، ومشاهد تنتقل إلى موقع آخر، يمثّل استديوهات هوليوود في عشرينيات القرن الـ20، مع عشرات الأفلام المُصوَّرة في الوقت نفسه، والأجواء المجنونة، من سرعة وانتظار وصول كاميرات، وتوتر وصراخ، وشتائم وانتقادات واعتذارات ممثلين، وظهور آخرين. كلّ ما يُبيّن سرعة تكيّف ممثلين، وحسن تدبير تقنيين، وشطارة عاملين بسطاء، واحتيال رأس مال.
من هنا يتخذ الفيلم منحىً أقلّ عمومية، لينحصر أكثر في متابعة شخصيات عدّة في لوس أنجليس: جاك النجم المكرّس، وماني الطموح، ونيلّي ذات الأصل المتواضع، والمثيرة والجريئة والراغبة في النجومية. معهم، بين حين وآخر، مغنية آسيوية الأصل، وعازف ترومبيت أفروأميركي، وصحافية مشهورة مختصة بفضائح الوسط. هنا، تبدأ متعة الفيلم. مع مبالغة لا بدّ منها في الأداء، إخلاصاً لهويته التي اعتمدت الإسراف عنواناً لها، تتشكّل قصة نشوء هوليوود في الماضي: بناء الاستديوهات، ومكر المنتجين، والتعامل مع النجوم أو مع الراغبين في أنْ يصبحوا نجوماً، والعنصرية إزاء عازفي الجاز السود، ومن سيحظى منهم بفرصة في الفن السابع، مع ظهور السينما الناطقة، وكلّ ما يكلّفُه الصعود، وما يتبعُ الهبوط. فالقمة لا تبقى لأحد، والعصر يتغيّر، ومن كان يوماً مرغوباً فيه، وبشدة، كجاك كونراد، سيأتي عليه زمن تحاضر فيه أمامه الصحافية العجوز إياها، عن الأفول، وضرورة ترك المكان للغير. حال الصاعدين لن يكون أفضل من حال الهابطين، ودخول هذا العالم القاسي، حيث الهزء والسخرية سلاح في وجه أنصاف المواهب، أو حتّى الموهوبين، يستلزم قوة جبارة وخداعاً.
إنْ ردّد "بابل" صدى الماضي، فإنّه يعكس الحاضر، ويقدّم بلقطاتٍ رائعة لوحةً متوهّجة، وإنْ بإفراط، ويحتفل بلا حدود بالسينما، بضيائها وظلمتها، وأثرها على المنجذبين إلى سحرها، ودور منظومة هوليوود التي تستنفد طاقاتهم، وتلفظ بسهولة من تجاوزه العصر والتغيير، كما حصل مع ظهور السينما الناطقة، التي قَلَبت الأوضاع والمفاهيم حول هذا الفن البصري.
عالج الفيلم، بشكلٍ مؤثّر وفعّال، هذه الانعطافة في تاريخ الفن السابع، وتمكّن، رغم أنْ لا جديد فيها، من التميّز في تناولها، بإثارة تعاطف تامٍ مع شخصياته، لا سيما كونراد الذي جسّد ببراعة أسى ممثلٍ على مجدٍ اضمحل، وذهب بلا رجعة. كما تميّز بتصويره تغييرات عصر، بات معه صوت الممثل عاملاً مهمّاً، وأداؤه مختلفاً، فيما نظرته العاطفية واحتضانه الرقيق لحبيبته يُثيران سخرية المتفرجين وضحكهم، بدلاً من دموع وفرح.
3 ساعات و10 دقائق من مشاعر مذهلة في تناقضاتها، في فيلمٍ مزعج وممتع، مرهِق ومحفّز، هزلي ومأسوي، واقعيّ ولا معقول، لمخرج لا يخشى الإفراط، كما قيل عنه، ويلجأ إلى الموسيقى مع الجاز، والأغنية المشهورة "غناء تحت المطر" (1952) لجين كيلي، مُثيراً حنيناً إلى زمن مضى.
"بابل"، خامس فيلمٍ لمخرج "لا لا لاند" (2016)، بوحٌ بالحبّ للسينما، ونفورٌ بل اشمئزاز (عكسه القسم الأول) من نظامها الهوليوودي. انتهت السينما مع النطق في الأمس، ومع أفلام الخيال العلمي اليوم. تظهر كلمة "النهاية" على الشاشة، وقد كُتبت تحتها كلمة "السينما"، على خلفية لقطات مُنفّذة بتقنيات عصرية، وخيال علمي. كأنّ الفيلم ليس وحده من انتهى.