اليوم الأخير: غليان وصخب بيروتيان لحظة المواجهة الأرجنتينية الفرنسية

اليوم الأخير: غليانٌ وصخبٌ بيروتيان لحظة المواجهة الأرجنتينية الفرنسية

21 ديسمبر 2022
حماسة وتشجيع بيروتيان: إنّها كرة القدم يا عزيزي (تمارا سعادة/Getty)
+ الخط -

في اليوم الأخير (18 ديسمبر/ كانون الأول 2022) لبطولة كأس العالم لكرة القدم (مونديال قطر 2022)، تضجّ أحياء بيروتية بمُشجّعين/مشجّعات كثيرين، يكشف تجوّلٌ في بعضها على الأقلّ أنّ غالبيتهم/غالبيتهنّ يتحمّسون للمنتخب الأرجنتيني، في مواجهته المريرة للمنتخب الفرنسي. الحماسة الصاخبة طاغيةٌ. الغليان حاصلٌ. يندر وجود متابعين/متابعات للمباراة، المنتهية بغلبة ليونيل ميسّي وفريقه بعد جهودٍ جبّارة، غير مكترثين أو غير متحمّسين أو غير فرحين/حزانى. فللتشجيع شروطه، بل ثقافته، والهزائم اللاحقة بالمنتخبات الأخرى تدفع مشجّعيها/مشجّعاتها إلى الانكفاء، إمّا بعيداً عن صخب اليوم الأخير، وإمّا إظهاراً للامبالاة إزاء ما يحدث، وإمّا بتشجيعٍ "مُنافقٍ" لهذا المنتخب أو ذاك، في اليوم الأخير نفسه، بحسب نسبة كراهية أحدهما.

التجوّل في أحياء بيروتية قليلة، تمتلئ بمقاهٍ وحاناتٍ مفتوحة أمام زبائن ومشاةٍ، يُتيح تبيان مشهدٍ غير مختلفٍ عن ذاك الحاصل في دورات سابقة. التصرّفات نفسها، بصراخها واحتجاجاتها وإعلانات أفراحها وأحزانها، كما في تعليقات تحليلية تُدين وتشتم، أو تدافع وتنتصر، أو تُلقِّن مدرّباً أو حَكَماً أو لاعباً، كأنّ المشجّع/المشجّعة أفهم من المدرّب واللاعب والحَكَم، وأذكى وأهمّ وأقدر على إدارة المباراة، التي، إنْ يتسلّمها، سيُتيح الفوز لمن يُشجِّع، بالتأكيد. الأسوأ أنّ بعض هؤلاء يُعلن، عشية المباراة النهائية، توقّعاتٍ يؤكّد حصولها، وقلّة منهم/منهنّ تقول إنّ التوقّع حاصلٌ، لكنْ بشكلٍ شبه كامل.

بعض تلك الأحياء، الصغيرة تحديداً، يُغلَق عفوياً لضرورة المُشاهدة، التي يحتاج إليها هؤلاء لإثارة إحساسٍ، أو وهمٍ والوهم جميلٌ رغم أيّ نتيجةٍ، بوجودٍ مباشر في الملعب نفسه، لا أمام شاشة فقط، وإنْ يكن حجمها كبيراً، أو ضخماً. هذا مفقودٌ في مقاهٍ/حانات، لضيق المكان، ولعدم وعي بجغرافيته أحياناً، فتُوزّع الشاشات بأساليب غير مُتيحةٍ مُشاهدة مريحة للجميع، بتساوٍ كامل. أمكنةٌ ضيّقة وشبه مغلقة، يكتفي مالكوها أو مستثمروها بتقديم مشروباتٍ غير كحولية، ونراجيل يكاد دخانها يُغطّي الفضاء، الضيّق أصلاً، إلى حدٍّ يكاد يحجب الشاشة عن عيون المتابعين/المتابعات. حاناتٌ تبيع كحولاً وطعاماً، فتتداخل حماسة المتابعة بتناول كأسٍ أو طعامٍ، وهذا يمنع أحياناً متابعة مشوّقة.

هذا كلّه في مقابل حاناتٍ قليلة غير مكترثةٍ بما يجري على الشاشة، رغم أنّها تتجاور وتلك الحانات/المقاهي المنشغلة بالمباراة. في شارع ضيّقٍ، يتفرّع من شارع الحمرا البيروتيّ، تتجاور 3 حانات، من دون أنْ تتشابه في ذاك اليوم الأخير. حانةٌ بشاشتين، والأمكنة ممتلئة بمشجّعين/مشجّعات، بغلبةٍ لـ"الانتماء" الأرجنتيني؛ وحانةٌ مقابلة لها خاليةٌ كلّياً، فغالبية روّادها مشغولة بالمباراة، وآخرون/أخريات غير آبهين، لكنّهم ينتظرون الموعد المعتاد لبدء السهرة اليومية؛ وحانةٌ يُحوّلها مالكها، مع الفسحة الأمامية، إلى متنزهٍ يُحتفل فيه بالأكل والشُرب، مع أغنياتٍ تتلاءم وحفلة شواءٍ كهذه، بعيداً كلّياً عن المباراة وطقوسها وحاجاتها، وعن أهواء المشاركين/المشاركات فيها، وإنْ عبر الشاشة.

الحانة المهمومة كلّياً بالمباراة النهائية، بمأكلها ومشربها وصخب ناسها، ستُتيح للمارّة فرصة المشاهدة، بعد فتح الستائر الخارجية، فالحماسة في أوجّها، والتعادل 2 ـ 2 لحظة تحوّل جذري في مسار المواجهة، والتنافس محمومٌ في الملعب والمدرّجات، كما في حانات/مقاهٍ وشوارع ومنازل، في بيروت والعالم. والمارّة، إذْ يتوقّفون للحظات أو لوقت أطول، يرغبون في مشاهدةٍ تتيح لهم/لهن، ربما، مراقبة الحاصل في المكان، لا في الملعب. هذا ظاهرٌ قليلاً، إذْ يبدو على مارّة عدم المُشاهدة، لرغبةٍ في المراقبة، فقط.

مطاعم أخرى، في شارع الحمرا نفسه، تُزيل الحدّ الفاصل بين المارّة والزبائن، وتتغاضى عن عدم اكتراث زبائن عديدين بمأكل أو مشربٍ، أو باكتفاء البعض بقليل منهما. هذه لحظة تاريخية، واللاحق على التعادل 2 ـ 2 يجعل المواجهة مصيرية. دخان الأراجيل في مقاهٍ صغيرة، في أزقّة متفرّعة من الشارع الرئيسي، غير متمكّنةٍ من حجب الرؤية، لشدّة الغليان الحاصل في الملعب، كما فيها. الاستمتاع بحفلة الشواء يتمكّن من جذب أناسٍ عديدين، غير راغبين في المباراة، وبعضهم القليل يتوجّه إلى حانةٍ تضجّ بحماسة وقلق وترقّب وتعليقات، لمتابعة شيءٍ من المواجهة. "إشكالٌ" بين شابين يحصل في زقاقٍ، فيحاول البعض التفريق بينهما. لكنّ تعالي الصراخ في حانة المُشاهدة يحرّض متدخّلين على ترك الـ"إشكال" لمعرفة سبب الصراخ، رغم أنّ هذا البعض غير متابعٍ للمباراة.

إضافة إلى هذا كلّه، هناك "روعة" الاحتيال و"بهاء" المواربة. فشل الجهات الرسمية اللبنانية في تأمين مشاهدة مجانية في المنازل، وعدم رغبة كثيرين/كثيرات في الاختلاط بجموع الأمكنة المنتشرة في شوارع عدّة، سببان لاحتيالٍ يُتقنه أناس عديدون، يتمثّل بتحميل برامج معيّنة لمشاهدة المباراة على شاشات أجهزة الهواتف. تقنيّة يتوق إليها البعض، كتوق بعضٍ آخر إلى رفع منسوب الحماسة، عبر رهانات ماليّة غير محدّدة فعلياً، لكنّها تتراوح بين مئات آلاف الليرات اللبنانية وآلاف الدولارات الأميركية. وهذا رغم انهيار اقتصادي/مالي/اجتماعي غير مسبوق في تاريخ البلد، منذ تأسيس "دولة لبنان الكبير" (1 سبتمبر/ أيلول 1920)، على الأقلّ.

أمّا الختام، فتعبيرٌ أهمّ عن مأزقٍ، أخلاقي وتربوي وسلوكي، يُعانيه لبنانيون/لبنانيات كثيرون. الحماسة، المنبثقة من تشجيعٍ عميق وحادّ، كما من فوز بمباراة أو بكأس، شعورٌ وحقّ طبيعيان لكلّ فرد، تماماً كحقّ فردٍ في ألّا يتحمَّس وألّا يُشجِّع وألّا يكترث. رفع أعلام منتخباتٍ، نقاشات حادّة أو ساخرة، تعليقات وتوقّعات، ادّعاءات فهمٍ ومعرفة، أمورٌ مقبولة في شهر المونديال. لكنّ هذا كلّه لن يكتمل، لبنانياً، إلّا بتلك العادة المتكرّرة في دورات سابقة، ومباريات مختلفة، وشؤون عدّة: تظاهرات صاخبة بـ"موتوسيكلات" وسيارات، إطلاق رصاص ومفرقعات، تحدّيات غير خارجةٍ كلّها على منطقٍ طائفيّ يسيطر على كلّ شيءٍ آخر، تقريباً. بعض هذا يحصل في أوروبا، مُحمَّلاً بكمٍّ من العنف. المذكور سابقاً يروي حالةً، وإنْ يهدف إلى وصفٍ للهوّة العميقة بين انفعال وحماسةٍ، وتظاهرات منبثقة منهما من أجل فعلٍ رياضي (وهذا طبيعي وعادي)، وغياب تام لكلّ انفعالٍ وحماسةٍ وتظاهرات تُقام لاستعادة حقّ منهوب، ولمواجهة تنانين قتل وفساد وسرقة.

لكلّ شيءٍ نهاية. هذا معروف ومتداول ومُعاش. دورة جديدة لكأس العالم ستبقى عالقة في أذهان كثيرين/كثيرات ووجدانهم، كدورات سابقة عدّة. صخب المباراة النهائية سيزول. المشهد سيحضر دائماً. البلادة والانهزام والرضوخ ستُعاود انفلاشها. الانهيار مستمرّ. الهوّة ستكبر. الخراب سينمو.

المساهمون