المُشاهدة في زمن كورونا: عظمةُ الشاشة الكبيرة متعةٌ للعين

07 يناير 2022
لا شيء يتفوّق على المُشاهدة في صالة كبيرة (إلفيس بارُكْتْشيش/فرانس برس)
+ الخط -

 

صالة فخمة. مقاعد جلدية فاخرة وناعمة ومريحة، تليق بسيارة إيطالية مكشوفة حمراء. فتحت الصالات السينمائية أبوابها لاستقبال عشّاق مُشاهدة الأفلام الجديدة على شاشات كبيرة. أضواء خافتة. يتسلّل المتفرّجون خاشعين من رهبة المكان. واضحٌ من طريقة مشيهم إلى الصالات الـ10، في المجمّع السينمائي، أنّ الأثر النفسي للحضور هنا يتجاوز البهجة إلى الدهشة والتحليق الفني.

لإشباع الحاجة إلى المشاهدة، أمضيتُ أكثر من 5 ساعات أمام شاشة عملاقة، تزيد مساحتها على 30 متراً مربّعاً. شاهدتُ "قصّة الحي الغربي" (2021) لستيفن سبيلبيرغ، و"بيت غوتشي" (2021) لريدلي سكوت. يمكن إجراء مقارنة متعدّدة المستويات بين فيلمَي مُخرِجَين، يعملان في هوليوود منذ نصف قرن. واضحٌ أنّ سكوت ماهرٌ في إدارة المعارك والمؤامرات، أكثر من قدرته على تصوير المَشاهد الرومانسية.

يوجد فرق رهيب بين مُشاهدة فيلمٍ على شاشة حاسوب في مقهى، تصعب مقارنة تفاصيل كثيرة عليها، وطقوس مُشاهدة فيلم في صالة سينمائية، على شاشة عملاقة. المُشاهدة الأولى تعرض الممثّل صغيراً، والضوء غامضاً، والصوت باهتاً. لذا، تصعب الكتابة. المُشاهدة الثانية تُظهر الممثل عملاقاً، وتلاوين الضوء مقروءة، والصوت قوياً معبّراً. إذاً، تسهل الكتابة. يحصل أنْ تكون بيئة المُشاهدة حافزاً أو عائقاً للكتابة عن فيلمٍ.

"الكتابة ضرب من الصلاة"، كتب فرانز كافكا منذ قرن. يُمكن القول الآن إنّ المُشاهدة ضربٌ من الصلاة أمام شاشة عملاقة، بحجم أبي الهول.

إنها حميمية العودة بعد الحرمان القسري للمُشاهدة في صالة سينمائية فخمة، أغلقها الوباء زمناً. هنا متعة العين والجسد. على الشاشة، تصير عين الممثل بحجم كوكب، حين تعرض في لقطة مُقرّبة. عظمة الشاشة متعة العين. تعرض ما حصدته الكاميرا، والكاميرا عينٌ لا أذن. من رأى ليس كمَنْ سمِع. هذا أقرّت به بلقيس، ملكة سبأ، بقولها للملك سليمان: "صَدَق الكلام الذي سَمِعْتُه في أرضي عن أقوالِكَ وعن حكمتِكَ، ولم أُصدِّق ما قيل لي حتى قدِمْتُ ورأيتُ بعينيّ، فإذا بي لم أُخبَرْ بالنصف، فقد زدتَ حكمةً وصلاحاً على الخبر الذي سَمِعْتُه" (سفر الملوك الأول، 10/ 6 ـ 7). حاول الرسّام الإنكليزي إدوارد بوينتر تعويض ما نقص في اللغة بالصورة، حين رسم لوحة "زيارة ملكة سبأ للملك سليمان" (1890). لوحة مُشبعة بالفخامة والزركشة.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

مُشاهدة الأفلام عملية معاكسة. بحثٌ عن المعلومات بالعين لا بالأذن. لكي ينسب الناقدُ السينمائي الفيلمَ إلى المخرج، يجب أنْ يُعلّق على حصاد الكاميرا وبلاغتها، لا على حبكة السيناريو الأدبي. يصعب على من تربّى في بيئة ثقافية سماعية أنْ يحدّق ويُدرك ويُبدع متعة للعين. هنا، يوجد فرقٌ رهيب بين الفنّ في شمال البحر الأبيض المتوسط، والفنّ في جنوبه. في الجنوب، الصُّوَر حرامٌ. في الشمال، اللوحات والتماثيل والأيقونات في كلّ المؤسّسات، خاصة الدينية. يقول ابن عربي، الذي عاش على ضفتيْ المتوسّط:

"الأذن عاشقة والعين عاشقة/ شتان بين عشق العين والخبر

فالأذن تعشق ما وَهْمي يُصوّره/ والعين تعشق مَحسوساً من الصُّور".

لهذا امتدادٌ في السينما. الحقيقة في الصورة. يقول ألفريد هيتشكوك: "الأدب الذي يأخذ جاذبيته من الأسلوب لا يعجبني، لأنّ ذهني يعمل بشكل بصري إلى حدّ ضيّق جداً".

السينما مملكة العينين، لأن الفيلم سلاطة بصرية أكثر منه بياناً بديعاً لغوياً. النصوص المكتوبة مُحرّرة بمنطق الأذن. لو قارنّا بين عدد النصوص التي تبدأ بـ"حدثنا"، وتلك التي تبدأ بـ"رأيت"، نكتشف فرقاً كبيراً في الأرقام، لأنّ مصدر معلومات الفرد مُقتَصر على الأذن منذ آلاف السنين. الذين سمعوا أكثر من الذين شاهدوا. تغيّر الوضع منذ بدء طباعة الصُّوَر، ثم اختراع السينما والتلفزيون. بفضل هذا الاختراع، زاد التركيز على الفنون غير اللغوية، والتركيز على خدمة عين الجمهور. أفخر مكان لتقديم هذه الخدمة صالة السينما.

في مطلع "هانيبال" (2001)، لريدلي سكوت، يُستَجوَب شاهِدٌ، يتلقّى السؤال التالي: "لنبدأ بما لاحظت. ماذا رأيت؟". أجاب الشاهد: "أعتقد..."، فقاطعه المحقّق: "قُلْ لنا ماذا رأيت أولاً، قبل أنْ تقول رأيك فيه".

الشهادة مصدرها العين، لا الأذن والاعتقاد. يصعب أنْ تحلّ الأذن محلّ العين. أمام القضاة في المحاكم، تُعتَبَر العين شاهداً أفضل من الأذن. يوجد شعراء عميان، لكنْ لا يوجد روائيون عميان، لأنّهم مجبرون على معاينة الوقائع. للعين قوّة ساحرة. من بين فقدان الحواس الخمس، يُعتبر فقدان النظر الأخطر على حياة البشر. يقول فنان خبير: "إنّ العين، فور فتحها، ترى نجوم نصف الكرة الأرضية برمتها" (دافينتشي، الأعمال الأدبية، ص 8).

ترى العين بفضل الضوء، وكذلك الكاميرا. الإخراج إنارة الشخصيات بصرياً. الشرح والتفسير فعل ديداكتيكي. الإخراج فعل تسهيل الفهم. حين يكون المعلم السينمائي ديداكتيكياً ماهراً، وحين يكون المخرج متفوّقاً، فإنّ الشاشة الكبيرة تخبر وتكشف الكثير للمتفرّج.

حصل هذا مع إطلاق عروض "سبايدرمان: لا طريق إلى الديار" (2021) لجون واتس، في ديسمبر/ كانون الأول 2021: احتكر صالات المجمّع السينمائي في الدار البيضاء، ويُعرض 7 مرات يومياً في أكثر من صالة. شقيّةٌ الأفلام التي تطلق عروضها بالتزامن مع إطلاق عروض أفلام الأبطال الخارقين. يُمكن السخرية من نجاح هذا النوع من الأفلام الطفولية، لكنّ أرقام المداخيل تُخرس الألسنة والأقلام. قد يكون الخرس بسبب أنّ في قلب كلّ متفرّج شكّاك طفلاً متفائلاً، يعشق المُشاهدة في صالة لا يوجد فيها مقعدٌ خالٍ.

المساهمون