على مرّ العصور، كانت الأغنية العراقيّة عنوان الشجن والحزن، وأثّرت على محيطها العربي بهذه الحساسيَّة. إذْ تتميّز الأغنية العراقية، عن باقي الأغاني العربيّة، بأنها تدور في فلك خاص جدًا، وتؤثّر بما حولها ولا تتأثر. شهدت فترة الحرب والحصار وأخيرًا الغزو الأميركي للعراق، ضياعاً لروح الأغنية العراقية. ولا تزال الفنون العراقية، وليس فقط الغناء، تعاني من الحصار الداخلي، وهجرة المواهب إلى الخارج.
في تسعينيات القرن الماضي، وصل الفنان العراقي كاظم الساهر إلى بيروت. صاحب "أحبيني" انطلق فنيًا من بيروت بعد سنوات، ونجَّم عربيًا. علمًا أنَّ الساهر عانى من الحصار السياسي في العراق، والعقوبات من الغناء، سواء قبل أو بعد سقوط نظام صدام حسين. ويعتبر كاظم الساهر اليوم واحداً من أكثر النجوم العرب شهرة ونجاحًا في العالم العربي، حتى أن البعض يصفه بالنجم العالمي بعدما وقف على أهم المسارح الأميركية والأوروبية، وحقق حضوراً أسطورياً. لكن الساهر حاول أن يتحايل على الفن العراقي بألوان أخرى، استطاع من خلالها تنشيط مساره الفني، وهذا ما شكل بالنسبة للبعض من أبناء جيله عقدة. فهاجر بعضهم، فيما بقي آخرون داخل العراق محاصرين بما حققوه ما قبل فترة الحرب والغزو الأميركي.
العراقيون "الهواة" شكلوا نواة أساسية لقيمة برامج الغناء
قبل أسبوعين، بدأت محطّة MBC بعرض برنامج "عراق أيدول" بحثًا عن صوت عراقي يستحق الضوء والشهرة. لكن البرنامج بطبيعته يبقى من ضمن سلسلة طويلة لهذا النوع من المسابقات، وهي برامج سكنت الشاشات العربية منذ عقدين، وتحولت إلى "معضلة استهلاكية" تعيق تقدّم الهواة إلى دنيا الاحتراف والنجومية. لم يغفل العراقيون طيلة العقدين السابقين عن المشاركة في برامج المسابقات الغنائية، ويصح القول هنا أن معظم العراقيين "الهواة" شكلوا نواة أساسية لقيمة برامج الغناء، وذلك لما يحملونه من قدرة في الصوت والأداء والتراث الموسيقى لبلاد ما بين النهرين، وأعادوه بالصوت والموسيقى للجمهور.
أسماءٌ عراقيّة كثيرة مرت على برامج المواهب، وتصحّ تسميتها بالأصوات المهاجرة، والتي لم تستغلّ تجربة الشهرة المؤقتة خلال عرض هذه البرامج لتعود للعراق، وتبدأ برحلة النجومية المفترضة، بل استفادت من الشهرة المؤقتة واتخذت من بيروت أو عمان وحتى دبي مقراً لها. وتاهت بعض هذه المواهب في البحث عن شركات إنتاج فنية تُسهل لهم عملية اختيار الأغاني وإدارة الأعمال والحفلات والندوات الإعلامية. تفاوتت نسبة نجاح هؤلاء، لكن ارتفعت أسهم المغنية العراقية شذى حسون بعد عبورها برنامج "ستاراك" وفوزها باللقب. حسون استغلت إقامتها في بيروت، لتحرز تقدمًا جيداً بداية مسيرتها الفنية، ثم اختارت التوقيع مع شركة "روتانا"، بعدما اعتمدت دبي مكانًا لإقامتها. وهي تعتبر اليوم من الأصوات العراقية الجيدة، لكن انتشارها العربي قلل من حضورها العراقي.
أما رحمة رياض فهي أيضاً خريجة برنامج "ستاراك" ووصلت اليوم إلى المشاركة كمدربة في لجنة تحكيم "عراق آيدول". ورغم ضعف خبرتها في الحكم على المواهب، خطفت رياض الأضواء في البرنامج، أمام مجموعة تعتبر الأشهر عراقيًا اليوم، كسيف نبيل وحاتم العراقي. لكن كل ذلك لا يعدو كونه مجرد فرقعات لأغنية وتراث وفن عراقي تائه هو أيضاً، ويبحث عن هوية تعيد إليه المجد الذي أتت عليه الحروب والتهجير، وجعلته يتأخر عن منافسيه في العالم العربي.