في منطقة سهل الغاب، في محافظة ريف حماة في سورية، تتربع قرية فقرو بين مرتفعات صخرية قاسية. تهبّ عليها باستمرار من جهة الغرب ريح عاتية، تأتيها من حوض البحر المتوسط. لا يخفف من وطأة ذلك العُتيّ وتلك القسوة سوى جريان نهر البارد، والخُضرة الفردوسية التي تُشرف عليها بيوت القرية الطينية المسّورة بالطوب والحجارة، حيث سهل مسحل الخصب وبُستانُ فقرو ترويه ينابيعٌ تنفجر من بين صخور الجبال المجاورة قد يصل عددها إلى العشرين.
أما الاسم فقرو فلعله آرامي، مشتقٌ من فعل الحراثة فَقَرَ، في إشارة إلى اشتغال أهلها بحرث الأرض، منذ أن عُرِفت المجتمعات الزراعية الأولى في منطقة الشام، قبل الميلاد بعشرة آلاف عام. في تلك البقعة الجبلية الخضراء في ريف حماة، ولد المغني السوري فؤاد غازي الذي صادف الثاني من أغسطس/آب ذكرى وفاته الـ11. ورِث ابن فقرو وسهل مسحل تلك الخلطة السحرية من القساوة والحلاوة، حتى إنه قد سبق له وتكنّى باسمها حين كان لا يزال يغنّي في الملاهي والأعراس، عندئذ، شاع لقبه بين الناس فؤاد فقرو، وذلك على الرغم من أن اسمه الحقيقي كان دوماً فؤاد غازي.
القساوة الصخرية، نسبة إلى طبيعة فقرو الجبلية، تجلّت في قوة الحنجرة التي تملّكها فؤاد غازي ووظّفها في جعل الدفق الصوتي ينبثق صدّاحاً، كعين ماء في الصخر. إلا أن قوة صوته لا تنكشف حادةً جارحةً، وإنما تتبطن واسعة مكتنزة، كما لو أن رئتيه تضخّان الهواء في حنجرته كالبوق. الأمرُ الذي لفّ غناءه بخملة، ولوّنه بدُكنةٍ، وزوّده برخامة نادرة أضفت عليه سمة الرجولة من جهة، ومن جهة أخرى، أكسبته عمقاً آسراً ولوناً دافئاً، ميّزاه ضمن إطار الغناء الشعبي الجبلي، وجعلا منه أكثر أناقة وكياسة، وأقل ظلفةً وخشونة.
في لون العتابا الذي انفرد به، وذلك بشهادة كبار من تمرسّوا به وعلّموه كالفنان اللبناني وديع الصافي (1921-2013)، للفظة "الأوف" عند غازي مدى واتساعاً. لكنه حين يهم بإلقاء أبيات الموال تباعاً، يزوّق وقفاته عند المختارات من الحروف بزخارف صوتية، أو ما يُعرف لدى الموسيقيين العرب بـ"التحليات". عندها، يحلو صوت غازي بقدر ما يعلو، ويُحسن الأداء بدقة وانسيابية تفوق سقف القوة والشدة الذي يقف عنده عادة المغنّون الشعبيون.
وليست الحلاوة التي تميّز بها صوت غازي صنيعة الدراسة والمعرفة، وإنما وليدة الفطرة والموهبة، فالنقاء في الأداء عنده يترقرق بصورة طبيعية، من دون تحسّب أو تكلّف. هو يُطلق لصوته العنان ليتمكّن مرّات، أو يتعثّر مرّات، مُفارقاً المقام، خصوصاً عند النزول نحو القرار، ثم لا يلبث أن يعود إليه عند الجواب صعوداً، ليستوي به؛ غضاضةٌ تناسب من جهة اللون الشعبي، لما فيه من بساطة ريفية أصيلة وارتجال حرّ مُرسل، إلا أنها من جهة أخرى تتميّز برقيّ خاص، وحدس جمالي عفوي وصادق، من دون اللجوء إلى الافتعال أو التصنّع.
إلا أن لتلك الحلاوة وذلك الرقي مكوّناً حقبوياً، يعود إلى السياق التاريخي والبيئة الثقافية والاجتماعية المرتبطة به. فمع أن فؤاد غازي مغنٍّ جبلي، يُجيد العتابا والميجانا، وبدأ مشواره في الملاهي والأعراس، إلا أن زمانه يختلف عن زمان اليوم والمغنين الجبليين الذين أخذ صيتهم يذيع فيه. إبان السبعينيات والثمانينيات، لم يكن ليتسنّى لغازي أن يخوض غمار الغناء، لو لم يكن قد مرّ بالقنوات الرسمية، من إذاعة وتلفزيون، وحرّاس بواباتها المؤسسين، من كتّاب أغان ومُلحّنين.
من أولئك الحراس، كان الملحن السوري عبد الفتاح سكر. فقد لحّن لفؤاد غازي سنة 1980 الأغنية التي سترددها الجماهير في سورية والبلدان العربية، ومن جميع الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، فيتألق نجمه، مُتجاوزاً من خلالها أجواء الملاهي وحفلات الأعراس، وهي "لازرعلك بستان ورود".
للأغنية شكلٌ أشدّ تعقيداً من أغنية الملهى والعرس. إبرازاً لعنصر القوة في صوت غازي، يستهل المُلحّن غناء المذهب من على عتبة الجواب في مقام البيات، حيث يتموضع جنس النهاوند العلوي. فيه، سُيقيم اللحن برهةً عند نغمته الثانية، موحياً بالكرد. بهذا، تلتقي القوة بعنصر الحلاوة عند تقاطع شاعري. بعدها، ينحدر اللحن نزولاً، مفارقاً النهاوند، إلى أن يدرك القرار، مروراً بنغمات البيات الأربع، الجنس السفلي للمقام. إمعاناً في التركيب، يُلحّن الكوبليه، أي المقطع التالي، على مقام مغاير، أشدّ تقرّحاً وانقباضاً، ألا وهو الصبا. كما سيعلو في مداه الصوتي على المذهب، لتصدح حنجرة غازي وتجرح، استثماراً من جديد في عنصر القوة عنده، وتأكيداً على الملامح الجبلية لديه.
يُشاع أن ابن مسحل لم يكن ليدخل النجومية من باب الإذاعة والتلفزيون في سورية، وأن فؤاد فقرو لم يكن ليصبح، أو يعود، فؤاد غازي، لو لم يتدخل لأجله واحد من رجالات النفوذ في البلد. حتى قيل إن كلمات أغنية "لازرعلك بستان ورود" كتب كلماتها ضابط في ما كان يعرف بسرايا الدفاع، وهي فرقة عسكرية كانت تابعة لشقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد.
ومع ذلك، لم يكن لفؤاد غازي أن يستجيب لمُتطلبات عبد الفتاح سكر التلحينية لو لم يرتق بنفسه إلى المعايير التي كانت سائدة، بفضل وجود المؤسسات الفنية الراسخة التي تؤثر بالذائقة الخاصة والعامة. هكذا، كان لزاماً على المغني الشعبي، كفهد بلان أو دياب مشهور، وقد سبق لسكر أن لحّن لكليهما، أن يقدم للناس أغنية تنسجم مع الذائقة العامة، التي وإن أخذت تتريّف نتيجة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية زمن الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، فإنها ظلّت تُحافظ على طابع الطبقة الوسطى التي سكنت الحواضر.
اليوم، لم تعد المؤسسة الفنية تقرّ المعايير، وإنما رجال المال والسلطة. أصبح صاحب النفوذ ورأس المال من يصنع النجم، وبالتالي هو من يُشّكل الذائقة لدى الناس. ومع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ليست ثمة حاجة بعد اليوم حتى للمُنتِج. فبات الناس يتغنون بفؤاد غازي، وبمقدرته على جمع القوة الجبلية بالحلاوة السهلية مع النقاء في الأداء، من دون أن يفقد حسّه الفطري، بجماليته الريفية التي تُغني ولا تُفقر.