المشاهدة الشرهة... تماه مع الشخصيات وزعزعة توقعات الحس

09 أكتوبر 2022
بفضل المنصّات صارت المُشاهدة متّصلة من دون فاصل زمني للاستيعاب (دونويلسون أوديامبو/Getty)
+ الخط -

كان المتفرّج، في زمن مجد التلفزيون، ينتظر 24 ساعة قبل مُشاهدة الحلقة الموالية من مسلسل "ليالي الحلمية" (1987)، أو "رأفت الهجان" (1988)، أو "أنت أو لا أحد" (1985)، أو "نور ومهنّد" (2005)، أو "سامحيني" (2011). كانت الـ24 ساعة كافية لكلّ متفرّج كي يهضِم ما شاهده، وينفصِل عن الشخصيات المُتخيّلة، فيستعيد صلته بواقعه، قبل مُشاهدة الحلقة الموالية.

الآن، في زمن الإنترنت، وبفضل المنصّات، صارت المُشاهدة متّصلة، من دون فاصل زمني للاستيعاب، وهدنة مع التخيّل. من دون وقت ومؤهّلات ثقافية للاستيعاب والنقد، سيقع المتفرّج تحت سيطرة الشخصية التي يتابعها. سيعيش استلاباً في مواجهة ما يشاهده. تقدّم كلّ سلسلة صبيب صُوَر.

المسلسل صُوَر وليس فكرة، والصُوَر كثيفة ومحسوسة وليست تجريدية. من هنا قوّة تأثيرها، كما في "لا كاسا دي بابيل" (2017). هناك صُوَر مستعارة من لوحات سالفادور دالي، وإيقاع سردي سريع. ففي 5 دقائق، شكّل البروفيسور فريق العصابة، وفي 10 دقائق حُدِّد الهدف ووزِّعَت المهام، فانطلق تنافسٌ شرس ودموي. في كلّ مشهد وحلقة، هناك دائماً رابح وخاسر واضِحان. مرّت 5 مواسم، وحقّقت السلسلة مئات ملايين الدولارات الأميركية، ومئات ملايين المُشاهدات، وآلاف المتابعات الإعلامية، بالإضافة إلى حضور كبير في مواقع التواصل الاجتماعي. 96 في المائة من المُشاهدين أعجبهم "لا كاسا دي بابيل".

هذه عيّنة من مسلسلات بنَفَس روائي رهيب. كانت الملحمة تحكي زمناً طويلاً، يتعذّر على الفرد أنْ يعيشه، ثم جاءت المسلسلات الطويلة لتأدية هذه المهمة. مسلسلات تُبعثِر تنظيم زمن الأكل والنوم، في انتظار إنهاء المشاهدة. يخاف المتفرّج أنْ يتسبّب توقيف المُشاهدة خسارةَ الوحدة الشعورية. هذا هو المعنى الحقيقي لجملة: "مش حتقدر تغمَّض عينيك". أشك إنْ عرف العالم، منذ آدم، وسيلة تسلية عميقة وممتعة وغنية ومُدوّخة وخصبة، مثل "نتفليكس".

بهدف زيادة كثافة الصُوَر واللقطات، تحضر خصائص رَاوٍ عليمٍ في المسلسلات. يهيمن السرد الكلاسيكي لتوفير معلومات كثيرة. مثلاً: في "لا كاسا دي بابيل"، تستخدم الشابة طوكيو موقع السارد العليم، كُلّي المعرفة، كأنّه ينظر من السماء، ويعرف ويحكي، ويستطرد (تكره طوكيو الذين يبصقون على الأرض). راو يُعلّق ويفسّر كلّ شيء، وربما يتكهّن بما سيجري. يُشبع هذا السردُ الشفهي الكثيف فضولَ المتلقي، ويُعوّض اللقطات التي لم تُصوَّر، كما في تقديم أعضاء فريق "لا كاسا دي بابيل" شفهياً، مع ذكر ماضيهم ومزاجهم، من دون تصوير ذلك. للاستفادة من صبيب المعلومات والصُوَر، يحاول المتفرّج مُشاهدة كلّ السلسلة في وقت قصير. يُشاهد ليلاً ونهاراً، ويتجاوز منتصف الليل، قائلاً لنفسه: "سأضيف حلقة، وأتوقّف". يشاهد حلقتين، ويكتشف أنّ هناك سرّاً سيظهر في الحلقة الموالية. هذا سهر مُرهِق.

كيف حالك أيها المتفرّج، عندما تُشاهد 10 حلقات من مسلسل دفعة واحدة؟ ما الحالة المزاجية التي تخلقها لديك مُشاهدة مسلسل طويل دفعة واحدة؟ تعيش مغامرات وتحوّلات وخدعاً وكمائن. تؤدّي بك مُشاهدة سلسلة من 100 حلقة إلى حالة مزاجية غريبة. تصير الحياة سائلة، وقوانينها رخوة، وكلّ شيءٍ متوقّعاً. تعيش حالة نزول في مكان بلا جاذبية. تحلم في منامك بأقوى اللقطات التي سبق أنْ تفرّجت عليها. تتماهى مع الشخصية الرئيسية من فرط طول المصاحبة. تُقدّم لك الصُوَر المرئية 7 أضعاف المعلومات التي تقدّمها لك الكلمات. هذا يجعل جهد الاستيعاب مُضاعفاً.

تحكي الدراما الوقائع بالصُوَر. تتوجّه الصُوَر نحو حدس المتلقّي، لا عقله. تخاطب أحاسيسه ووجدانه. الخطر أنّ الدراما فنٌّ لا واقع. تُعاكِس التوقّعات الفطرية للبشر. الدراما وضعُ الملح على الجرح، وصبّ الزيت على النار. هذا يُزعزع توقّعات الحسّ البشري، وأمله في الخير والأمان والشبع والسلامة. يكره البشر التوتّر واللحظات الصعبة، بينما تقوّي الدراما اللحظات الصعبة. الفطرة تتضرّر. السهر مُضرّ للصحّة. بلغت الساعة الثانية صباحاً، وبقيت 5 حلقات. حلّت الرابعة صباحا، بقيت 3 حلقات. هذا مُرهِق لمن يُدمن المُشاهدة أكثر من ما ينام. يتحاور مع شخصيات المسلسل أكثر مما يتحاور مع من حوله. يحلّ الخيال مكان الواقع. مع الزمن، يشعر المتفرّج، وربما لا يشعر، أنّه ينفصل عن واقعه.

الحكاية المُصوَّرة مطيّة المخرج لاستثارة ردود فعل الجمهور. يصير المتفرّج مُتوحِّداً برفقة "المحامية الاستثنائية وو". يصير مُقامراً مع سلسلة "لعبة الحبّار" (2021)، ويُرافق مُحتالين في "لا كاسا دي بابيل"، ويُعجَب بقتلة شرفاء في "فايكينغ" (2013). النتيجة أنّ المتفرّج يتعايش مع الدم، وربما يرى المجرمين في منامه يهاجمونه. يعيش كوابيس مستعارة من الشاشة. وعلى الرغم من هذه الأعراض الجسدية والنفسية، فعند مُقارنة مفعول مواقع التواصل الاجتماعي بمفعول منصّات المُشاهدة، وبعد ساعتين على "فيسبوك" و"تيك توك"، يشعر المتفرّج بالصداع والدوار. بعد ساعتين من مُشاهدة "نتفليكس" أو "أمازون فيديو"، يشعر أنّ روحه تغذّت جمالاً، وعقله نوّر. 

المساهمون