الكوميديا السورية... أن يغدو الصمت نكتةً في دمشق

09 سبتمبر 2024
تلجأ هذه العروض إلى لغة لم يألفها الشارع السوري (لؤي بشارة / فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تاريخ الكوميديا السورية وتطورها**: بدأت في الستينيات مع شخصيات مثل غوار الطوشة، مروراً بمسرحيات محمد الماغوط ومسلسل "بقعة ضوء". ارتبطت بالنقد الاجتماعي والسياسي، وتراجعت منذ 2011 بسبب الأوضاع الصعبة.

- **ظهور "ستيريا" كأول فريق ستاند أب كوميدي في دمشق**: تأسست من شبان وشابات هواة، قدمت عروضها في دمشق رغم الرقابة الصارمة، محاولين كسر الجندرة وتناول مواضيع جديدة.

- **التحديات والآفاق المستقبلية للستاند أب كوميدي في سورية**: يواجه فريق "ستيريا" تحديات اقتصادية ورقابية، ويعتمدون على منصات التواصل الاجتماعي للانتشار، مع الأمل في خلق مشهد ثقافي بديل.

تعيد كلمة كوميديا ذهن السوري إلى فترة تبدأ من ستينيات القرن الماضي، بداية بغوار الطوشة، مروراً بمسرحيات محمد الماغوط، وكوميديا الموظفين الحكوميين بقيادة أيمن زيدان، وصولاً إلى مسلسل "بقعة ضوء"؛ الأيقونة الرمضانية السورية. ارتبط الضحك السوري بالكوميديا السوداء والنقد الاجتماعي والسياسي بالذات، فأكثر ما يثير القهقهة هو النكتة التي تتجاوز الخط الرقابي بذكاء، لتنفس ما يعتري صدور الجالسين وراء الشاشة. مع ارتباط وثيق بين الكوميديا والتلفاز. ومنذ عام 2011، تراجعت الكوميديا السورية إذ تفوّق الواقع كثيراً على أي محاولة نقد فنية تقليدية، إضافة إلى الصمت الذي اعترى الساخرين السوريين لوجود دماء على الأرض.
وعبر هذه السنوات، فرض المجتمع السايبري/الرقمي نفسه في مجال الضحك عبر الريلز، مع تراجع الكوميديا السورية التلفزيونية. أما الجيل العربي الجديد، فقد اختار الستاند أب كوميدي ليكون فنه البديل وصوته النقدي. وبالفعل، تجتاح لبنان ومصر والدول الخليجية موجة عروض الستاند أب كوميدي، ولكن ظلت سورية بعيدة عن النوع، لحين خروج عدة شبان ليؤسسوا فريقا سموه "ستيريا"، في محاولة دمج بين كلمتي سورية وهستيريا. هذا الفريق هو الأول من نوعه على مستوى عروض الستاند أب كوميدي داخل دمشق، على الأقل بعد الحرب.

"ستيريا" نموذج أول من الكوميديا السورية

ليست "ستيريا" هي النموذج الأول للستاند أب كوميدي في سورية، فقد شهدت الكوميديا السورية وهذا المجال تحديداً عدداً من المحاولات، كان أغلبها من خريجي قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، وبقيت حبيسة قاعات المعهد وجمهور المسرح، إضافةً إلى تأسيس بعض الفنانين الكوميديين مبادراتهم الفردية خارج سورية، كعمار دابا الذي يقدم عروضه في أوروبا.
أسست "ستيريا" مجموعةُ شبانٍ وشابات، ليسوا أصحاب خلفية فنية أكاديمية، وغير محترفين. هم مجموعة من الهواة أبناء الطبقة الوسطى متعددي الخلفيات الطائفية وأحياناً العرقية (هنالك سوداني في الفريق). كما أن بينهم فتاة في محاولة خرق الجندرة للكوميديا. معظمهم سافر خارج سورية لفترة، سواء دبي أو بيروت، وعاد إلى دمشق. لا علاقة لهم بالسياسة أو بأي منظمات مدنية.
أعضاء هذه الفرقة لا يملكون أي رأسمال رمزي أو فني أو مادي بالإمكان التعويل عليه لأجل حماية أنفسهم، كذلك لا يملكون أي رخص تنظيمية من نقابة الفنانين أو غيرها من الجهات الحكومية، ومضمون ما يقدّمونه لا يُعرض على جهات رقابية مباشرةً، وهذا ما يساعد على خلق ثغرة في آلية عمل الرقابة ويحدّ من دورها. ومع هذا، تبقى العروض قابعة خلف النكات المحذوفة والمشذبة والمرمزة.
من زاوية أخرى، وعلى مستوى اللحظة التاريخية التي تبدو فيها دمشق متأخرة عن المنطقة بسنوات نتيجة الحصار المفروض من الخارج أو الداخل، فإن المدينة التي تنحصر نشاطاتها في بضع حانات وبعرضين مسرحيين ربما على مدار العام، تبدو بأشد الحاجة لأي نشاط فني أو ثقافي، ما يجعلها أرضاً مثالية لبداية أي هاو. أما الرقابة، فما زالت عند مستوى معين من الوعي منحصر بالمحتوى التلفزيوني. ربما هذا ما جعل المسرح خلال أعوام طويلة يمتلك هامش حرية أكبر بكثير من الدراما التلفزيونية. وفي حين لا تزال عروض الستاند أب عند مستوى ضيق وغير جماهيري، فلا بأس بانتظار اللحظة التي سينمو فيها المشهد الكوميدي وعندها سيتم تقييم الوضع من جديد. عموماً، لطالما تمتعت الرقابة بنوع من المناورة والاتفاقات الضمنية تقتضي بألا تمنح أحداً أي ورقة أو قرار مكتوب يشرّع عمله. ولكن، بالمقابل، ليس هنالك قانون يدينه مباشرةً، وعلى الفنان أن يدرك ما هي الخطوط الحمراء بنفسه. ورغم هذا، لا يمكن له معرفة  اللحظة التي سيُمنع فيها. تقريباً، يعيش الفنان مناخاً كابوسياً لا يمكن تحديد الممنوعات والمحظورات فيه بدقة.

موقع المتفرج على الكوميديا السورية الجديدة

بالنسبة إلى النوع الفني، فإن جدة وحداثة الكوميديا الارتجالية على الرقابة وعلى المجتمع السوري تضع المؤدّي في موقع المتفرج في البداية: ما الذي سيقوله؟ وما هو هامش الخطأ؟ بل والأهم من ذلك: من هم جمهوره؟ هذا الأخير يبدو لحد الآن مرتبطاً بدائرة معينة ومحددة جداً، لسبب بسيط وهو أماكن العروض التي تنحصر بعدد من الحانات وبعض المقاهي. وبالطبع، هناك نكات في الحانات لا تصلح للمقهى، لذلك تبدو جغرافيا العروض محددة ومتعلقة بجمهور معيّن.
معظم النكات تركزت على روتين الحياة اليومية في دمشق، كما حال المواصلات والكهرباء. وبعضها يتجه نحو السيرة الذاتية للمؤدين في ما يخص العائلة والعلاقات العاطفية التي تأخذ الحيز الأكبر. ولكن، من بين هذه الثيمات، يخرج بعض النكات التي تخص الطائفية، ومعظمها ينحصر بنقد الصورة النمطية لبعض الطوائف، كالدروز أو المسيحيين، وطبعا ضمن المستوى المقبول. يحسب للعرض نطقه الكلمات التي تدل على الطوائف في سورية، والتي  لم نَرَها من قبل ضمن أي عرض فني، على الرغم من انفجارها في الشارع، إلا أنها تتوارى في العروض المسرحية أو التلفزيونية. ومن بين هذه النكات التي تمس الصور النمطية، تنسل السياسة بالضرورة. وعند الوصول إلى النكتة السياسية، يصمت المؤدي، ويكتفي بالصمت ليضحك الجمهور. يصبح الصمت أو الخجل نكتة بحد ذاتها داخل دمشق. وبالرغم من خجل محاولة الكوميديا السورية إذا ما قارناها باللبنانية خاصة على مستوى كسر التابوهات، فإن هنالك لغة جديدة تُقدَّم فنياً. لغة لم يعتدها الجمهور السوري على الخشبة. لغة تخص الشارع فقط، وخروجها في سياق فني هو أمر يشكل خرقاً اجتماعياً. هنالك كلمات عن الطوائف وعن بعض أنواع الحبوب المخدرة وبعض المفردات الجنسية.

 

على المستوى الأدائي نفسه، لا مجال للمقارنة بين فرقة "ستيريا" والمحترفين اللبنانيين أو العرب في هذا المجال. هنالك بالتأكيد مشاكل أدائية في ما يتعلق بالتمهيد والقدرة على إيجاد النغمة المناسبة للسرد والأداء. كذلك ليس هناك انتقال سلس بين النكات أو جهد لإيجاد حكاية تجمعها. كما أن المؤدين ليسوا من الفاعلين الثقافيين أو أصحاب الرؤى السياسية، ومعرفتهم بالمواضيع الشائكة تبدو ضحلة، وهذا ما دفعهم للاتجاه نحو موضوعات بسيطة.
لكن، أمام هذا الجهد المستقل تكمن تحديات اقتصادية هائلة تتعلق بالجدوى المالية والريع الذي من الممكن أن يجعل هذه التجربة تستمر. ليس هنالك أي تمويل سوى سعر البطاقة الذي لا يتجاوز الخمسة دولارات. ونظراً إلى سعة الأماكن التي لا تتعدى الستين شخصاً، سيبدو العائد متواضعاً إذا ما قسمناه على عدد أعضاء الفريق. ومع صعوبة تقديم هذه العروض في فضاءات واسعة، نظراً إلى ضرورة الحصول على موافقات أمنية وعدم وجود جمهور كاف في دمشق مهتم بهذا النوع، سيبقى الأمل متعلقاً بالانتشار على منصات التواصل الاجتماعي بما يضمن اعترافاً إقليمياً بهؤلاء الفنانين، ويمهد الطريق نحو عروض خارج سورية، سواء في دبي أو بيروت. 
بعيداً عن عمر التجربة القصير ومحدودية المساحة التي يُلعب فيها، إلا أن عروض الستاند أب هذه تستطيع خلق جماعات صغيرة داخل دمشق، بل وتكوين مشهد ثقافي بديل معاصر إلى حد ما، يرسم ملامح جديدة للمدينة ويلونها بأطياف حانات بيروت ومناخها الثقافي. ربما لن تكون هذه المحاولة في سبيل تغيير سياسي أو اجتماعي، وهذا ليس فرضاً عليها، إلا أنها حافز حقيقي لرسم هوية للمدينة تستطيع مواكبة التيار الثقافي في المنطقة.
أما بالنسبة لتطور هذا النوع الأدائي، فهو ليس مرهوناً بالأشخاص، بل متعلق بردة فعل الرقابة. وربما بالإمكان الآن الرضا بحدود العروض ومستوى النكات، ولكن ذلك يجب ألا يقف هنا، فالستاند أب كوميدي هي محاولة للالتفاف على علاقات القوة المحددة بالجنس والسياسة والدين بالمقام الأول.

المساهمون