السينما الغنائية: ثلاثة سيناريوهات محتملة في فيلم واحد

08 مايو 2021
من كواليس تصوير فيلم "غزل البنات" (تويتر)
+ الخط -

يطلب ناقدٌ، أو صحافيّ مُتابع للشأن السينمائي العربي، من فاعلين في السينما العربيّة المُشاركة في تحقيق حول السينما الغنائية وموقعها في العالم العربي، وأسباب تراجعها، فيُصاب بخيبة أمل إزاء امتعاض البعض من الحديث عن هذا الموضوع، فالسينما الغنائية، بالنسبة إلى هذا البعض الممتعض، لا تدخل في اهتماماته وأولوياته، علماً أنّ هذه السينما ظلّت تتربّع على عرش شبّاك التذاكر، خصوصاً في مصر، فترة طويلة، مقارنة بتراجعها، وبالوهن الذي أصاب البلاد العربية منذ مطلع الألفية الجديدة.

لكنْ، أهذا مجرّد كلام يتعمّده المرء للهروب من المُشاركة في الموضوع أم لأنّ السينما الغنائية بالنسبة إليه، ونظراً إلى سياقها التاريخي الذي ظهرت فيه، تبدو اليوم مجرّد سينما تاريخية حالمة، تلهث وراء وهم اسمه الحقبة الرومانسية، البارزة في فنون مشرقية عدّة، في وقت كانت البلاد العربيّة تنغل سياسياً واجتماعياً؟ أم أنّ العرب، تاريخياً، بقدر ما عاشوه من خيبات ونكبات وتصدّعات وقلاقل، أصبحوا يرفضون أيّ سينما غير واقعية، لا تعالج قضاياهم ومآسيهم في أوطانهم المنكوبة، ويريدون سينما حالمة وتجريبية، تختبر وسائط بصريّة أخرى لخلق سينما مُغايرة، تُستبدل فيها مفاهيم التفكير والمعالجة لصالح أخرى، ترتبط أكثر بمفهوم المُتعة، وجماليّات الصورة، والذوق الفني الممزوج بالرومانسية والغناء والرقص والسينما؟

كما في "البؤساء"

أوّل ما يعترض المرء، لحظة التفكير في السينما الغنائية، الارتباك الحاصل عند شريحة أكبر من متابعي هذا النوع السينمائي الذي يُمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع: الأوّل فيلم غنائي يتّخذ فيه السيناريو شكل توليف غنائي وموسيقي بين الشخصيات، كما في "البؤساء" (2012) لتوم هوبر الذي يُعيد محاكاة رواية فيكتور هوغو بشكلِ غناءٍ ملحمي، يستعيد فيه مجد فرنسا، المبنيَّ على أجساد الفقراء والمنكوبين اجتماعياً، فجاءت الصورة مُضمّخة بالحزن والفجيعة والقوة، مع حرص هوبر على التأثير في المُتلقّي بالموسيقى والغناء. في هذا الفيلم، تبدو المَشاهد غير مُستقلّة عن الموسيقى التصويرية، بل إنّها تصنع جماليّاتها ومُتخيّلها، انطلاقاً من شعور لذيذ ينتاب المُشاهد في سفره في روح الفيلم، ليس عبر صوره وقصصه وحكاياته، بل عن طريق موسيقاه وتفاوتها من مشهد إلى آخر.

الثاني يحافظ على عناصر وإبدالات الفيلم العادي، مع إضافة فواصل غنائية، تُقَسّم غالباً إلى فقرات تتماشى مع حبكة النصّ وشخصياته، ومع أوضاعها في مشاهد مُعيّنة، كما في السينما الهندية، وبعض الأفلام الغربية، كفيلمي Once وBegin Again لجون كارنيّ (2006 و2013).

الثالث يحضر فيه الغناء بوصفه موضوعاً في سيرة موسيقيّ أو مغنّ، يعمل المخرج على تخييل سيرته الفنية في فيلم. هذا النمط سائدٌ بكثرة في الغرب، مع أفلامٍ استعادت سِيَراً كثيرة لبعض كبار الغناء الغربي، بدرجات متباينة من المعالجة والتخييل والتأريخ السينمائي للسِيَر.

التفكير في خصوصيات هذه الأنواع الفيلمية الغربية، يقود إلى التساؤل عن غياب السينما الغنائية العربيّة (المقصود النوع الثاني)؛ وعن أسباب الاختلاف بين الأنواع الثلاثة، والعوامل المُتحكّمة فيها. فالأوّل يبقى صعباً، وتحقيقه يخضع لعوامل فنية وإبداعية، تتمثّل في قدرة مخرج ومؤلّف على تفكيك يقينيات الواقع وميثولوجياته، ومُحاولة إخضاع تمثّلاته على مستوى الصورة الفنية، إلى عملية تجريب لمُفرداته العينيّة، وتطويعها بصرياً من خلال ارتياد آفاق جديدة في تخييل الصورة. بالإضافة إلى ميزانية كبيرة لتأليف أغان، وابتداع مقاطع موسيقية كثيرة، تتماشى مع كلّ مشهد، ما يجعل الفيلم يتجاوز نطاق المُخرج السينمائي إلى درجة إدخال الموسيقى في كلّ دقيقة منه. هناك أيضاً الشرط الإنتاجي، إذْ مُهمّ جداً إيجاد مُنتج يُؤمن بمشاريع سينمائية غنائية، تتجاوز في عوالمها السينما العادية من أجل تجديدٍ بصري، يبدأ من الصورة ومشاهدها، ويتوغّل أكثر في أداء الممثل وقدرة المغنّي والموسيقيّ، بأدواتهما، على تحقيق تناغم بين الصورة والصوت.

ملاحظات

هذا عاملٌ مُهمٌ أبقى السينما العربيّة بعيدة عن تجريب النوع الأوّل، رغم وجود إمكانات هائلة اليوم، مع الإنتاج المُشترك الذي يُفيد في الاشتغال على هذا النوع الفيلمي، المُجدّد والصعب.

النوع الثاني، المُسمّى عربيّاً بـ"السينما الغنائية"، ظلّ مُتاحاً في أفلام مصرية ولبنانية، مع صدارة الإنتاج المصري، على صعيد الكَمّ لا الكيف. هذه الأفلام بدأت تنتشر في السينما العربيّة منذ ثلاثينيات القرن الـ20، من دون التفكير في تجديد السينما العربيّة، إذْ ترافق بروزها مع الأوج الفني الذي عاشته الأغنية العربيّة في بواكيرها الأولى، فكان اقتحام الطرب للسينما يبدو عادياً. وجدت السينما المصرية فرصةً لقبول هذا التزاوج البصري، الذي يخدم الطرفين معاً. فالغناء يستفيد من أهميّة الصورة السينمائية وقدرتها على الذيوع وسرعة انتشارها وتأثيرها في وجدان المُشاهد العربي، ما يُتيح إمكانات جمّة لنجوم الغناء للظهور بصُورهم هذه المرّة، في "فيديو كليبات" خاصّة لهم، عوض الاكتفاء بأصواتهم فقط. أما السينما، فمكّنها هذا الغناء من تحقيق تواصل حيّ مع روّاد الطرب العربي، وجعل أفلامها تكتسح شبّاك التذاكر في مصر، بعد العطب الذي أصابها في ذلك الوقت.

أبعاد مختلفة

شكّلت نهضة الغناء، في مدن مشرقية عدّة، وسيلة نجاح للسينما الغنائية، فتراكم الوعي بها بعد أعوام كتجريبٍ فني، خاصّة بعد أن تزعّم التيار الرومانسي هذه النهضة، وغدت الرومانسية موضة العصر في الغناء والسينما والرسم والمسرح. على هذا الأساس، اشتهرت السينما الغنائية، لأنّها بقيت بمثابة تعبير حميميّ، يُريد تجاوز الواقع المنكوب الذي ينتمي إليه الناس، إلى واقع ـ عالم جديد، حيث الناس يتحرّرون من فقرهم ومشاكلهم وأزماتهم، ومن قهر التاريخ واستعماريّته.

اللجوءُ إلى عالمٍ مُتخيّل بُعدٌ فكري، دافعت عنه الرومانسية كتيار في السينما الغنائية، رغم ما ظلّ يكتنفها من سطحيّة في أفلامٍ عدّة. والسبب، أساساً، عائدٌ إلى كون منطلقات هذه الأفلام لم تكن سينمائية بل غنائية. يُسجِّل المُشاهد للفيلموغرافيا الغنائية المصرية سيطرة الغنائي على السينمائي، فأفلام كـ"أنشودة الفؤاد"(1932) لماريو فولبي، و"غزل البنات"(1949) لأنور وجدي، يغلب عليها النَفَس الغنائي الرومانسي.

والغناء، بقدر ما يمنح المُشاهد من سحر صورة ومتعة مُشاهدة، يُؤثّر سلباً على حبكة النصّ السينمائي، ويجعله تابعاً للأغنية، بدلاً من أنْ تكون هذه الأخيرة مُجرّد ميسم جماليّ، تنطبع معها الصورة والمُؤثّرات الصوتية.

هذا لا يُفسّر سوى النهضة التي كانت تعيشها الأغنية العربيّة في تلك المرحلة. لكنّها، من جهة أخرى، لا تُمثّل سوى خاصية التجريب، التي بدأت كعلامة فنية تُميّز السينما العربيّة، وترسم لها خصائص جمالية تأسيسية كثيرة، وتنحت ـ للمرّة الأولى في تاريخها السينمائي ـ إمكانية الحديث عن مزج خفيّ ومُعلن بين فنون بصريّة عدّة، تبدأ بالغناء والسينما وتنتهي بالمسرح، الذي له دورٌ كبير في صنع ما سُميّ في الأدبيّات الموسيقية بالأوبريت، أي الغناء الاستعراضي الذي برز في السينما الغنائية، حيث يروم المُمثل إلى تجسيد الدور عن طريق أداء تعبيري استعراضي، لا يُبرز فيه فقط مكانة الدور وأهميّته، بل يكشف عن لاشعور الممثل على مستوى الأداء. هذا القالب من الغناء لا يحضر إلاّ في أفلام عربية قليلة. والمسرح لعب دوراً كبيراً في تغذية هذا القالب الغنائي في السينما العربيّة، وأعطى للممثل قدرات هائلة على التعبير في هذا النموذج من الأفلام، التي يصبح فيه الممثل كمن يقود الفيلم، لا المُخرج.

أما الغناء، فأعطى بدوره نوعين: المحاورة، إذْ يؤدي الممثل حواراً غنائياً مع الشخصيات الأخرى، بالاستناد إلى موضوع النصّ السينمائي وحبكته؛ والمونولوغ، الذي يظهر فيه المغني لوحده مؤدّياً أغنية حزينة، أو متلذّذاً برومانسية مُفرطة، كما يظهر في أفلام هندية كثيرة مثلاً، إلى درجة أنّه لا يوجد فيلم هندي يخلو من هذا النوع الموسيقي، الخاضع في طرق تشكلّه لمفهوم السرد، وللطابع الإنشاديّ المُرتكز على التعبير الوجداني.

تغييرات

هذه تغييرات فنية وجمالية أصابت السينما الغنائية، في ذلك الوقت الباكر من تاريخها، إذْ لم تكُن تُضمر في طيّاتها سوى الإبدال المفاهيمي/ الجمالي، الذي بدأ يُؤسّس مسار وعيها الفني.

هذا حاصلٌ فقط بسبب سطوة التيار الرومانسي، في مرحلة باتت كأنّها مجرّد هدنة لأعوامٍ عجاف وقاحلة، في السياسة العربيّة، منذ ستينيّات القرن المنصرم. آنذاك، بدأت السينما الغنائية تخفت، وانهار معها المشروع الغنائي، فأصبحت الرومانسية ـ التي كانت منذ الثلاثينيات الماضية تُشكّل تياراً قويّاً في البلاد العربيّة ـ مجرّد مزحة ساذجة، تعكس هشاشة الفيلم المصري، وضحالته وتدويره.

سينما ودراما
التحديثات الحية

هذا التحوّل الخفيّ من حقبةٍ رومانسية إلى أخرى واقعية، كان أكثر أسباب تراجع السينما الغنائية، وانهيار مشروعها الجمالي، المُجدِّد على مستوى الأداة والخيال. لكنْ، ونظراً إلى تاريخ السينما الغربية، يبدو هذا الأمر عادياً. فكلّ مرحلة محكومة بموت وشيك، وهذا عاملٌ مُهمّ للسينما. كلّ مرحلة تحطّم التي قبلها، لكنّها تقترح بدائل جمالية أكثر ارتباطاً بالتغيّرات التي تطاول الواقع.

بروز السياسة والقومية والوحدة، وغيرها من المفاهيم الإيديولوجية، لم يُغيّر مسار السينما العربيّة فقط، بل مسار الفنون العربيّة كلّها. لم يعد هذا مُهمّاً، بالنسبة إلى مُخرج سينمائي يعيش سينما نوستالجية متقوقعة في مرحلة تاريخيّة، تلاشت معالمها واقعياً، على حساب واقع عربي جديد ينغل سياسياً، بحكم ما شهدته المنطقة العربيّة من تصدّعات، كانت بمثابة إشارات ضوئية عن مرحلة منكوبة مقبلة، تلوح في الأفق القريب، وتغري السينما (وغيرها) على الدخول في سراديبها المُظلمة.

المساهمون