ما يُقال عن أسباب غياب السينما الغنائية في العالم العربي، يُقال أيضاً ـ وإنْ بتفاوتٍ في الأهمية والأولوية ـ في أسباب غياب أنواعٍ سينمائية أخرى، كالرومانسية والبوليسية والتاريخية. بؤس اليوميّ، في مناحي الحياة برمّتها، طاغٍ بقسوته وارتباكاته. شدّة الخراب وعنفه دافعٌ إلى بحثٍ سينمائيّ عميق في جذور ومتغيّرات وحالاتٍ، تؤدّي كلّها إلى هذا الخراب، بشدّته وعنفه. الرقابة الرسمية، كأبرز واجهة لرقابات أخرى في الاجتماع والدين والثقافة والإعلام، سببٌ في تعطيل كلّ ما يدعو إلى فرحٍ ومتعٍ وحريات وتمرّد، رغم تمكّن سينمائيين عرب من المواربة والاحتيال في صُنع أفلامٍ سينمائية، تواجِه تلك الرقابات، وتغوص عميقاً في أحوال الخراب، وبعض نتاجاتهم ممنوعٌ من العرض، وهذا دليلٌ على استقامة الرؤية السينمائية للخراب نفسه.
أنْ يغيب نوعٌ سينمائي في لحظةٍ ما، فهذا عاديّ، لأنّ مسار السينما في العالم يتغيّر، فتتغيّر معه أمزجة المُشاهدين. الكاراتيه والوسترن نوعان مختفيان في السينما الغربيّة، والهوليوودية تحديداً، إلى حدّ كبير، والإطلالات عليهما نادرةٌ. السِّيَر الحياتية تظهر بوفرة، ثم تغيب وإنْ لوقتٍ عابرٍ. الخيال العلمي، وأفلام "مارفل" بأبطالها الخارقين، ومشاهد الرعب والكائنات الحيّة الميتة (زومبي مثلاً)، طاغية بكثرة، رغم أنّ معظمها غير مفيد، سينمائياً ودرامياً وجمالياً. أفلام الأوبئة والتاريخ والاستخبارات تحضر دائماً، والحرب العالمية الثانية أكثر المحطات جذباً، والمحرقة النازية لليهود تحتل صدارة المشهد بألف قصّة وشخصية، إذْ تعثر صناعة السينما الغربيّة دائماً على قصص غير مروية عنها ومنها، وعلى شخصيات، حقيقية وغير حقيقية، تبقى طويلاً في النسيان (أتكون القصص والشخصيات كلّها حقيقية وواقعية، فعلاً ودائماً؟).
آراء عدّة تلتقي عند غياب الإنتاج في العالم العربيّ، الذي وحده قادر على إيجاد مساحة رحبة للسينما الغنائية، ولغيرها من الأنواع المنقرضة، أو غير الموجودة أصلاً في صناعة السينما العربية. المنتج المهتم غائبٌ، وميزان الربح والخسارة أساسيّ في الاشتغال على المشاريع كلّها أصلاً. المآزق الجمّة عاملٌ أساسيّ، والتقنيات الحديثة توفّر وسائط تواصل أسرع وأقلّ كلفةٍ بين المُنتج والمتلقّي. انهيار مستويات شتّى في صناعة الأغنية العربية الحديثة أصلاً، سببٌ في غياب سينما غنائية، رغم أنّ الموجود حالياً كثيرٌ وشعبيّ، ما يعني أنّ له قدرة على تحريضٍ ما لإنتاجات تُعنى بسينما غنائية ستتلاءم كثيراً مع الانهيارات الثقافية والفنية والحياتية، المُصابة بها دول عربية عدّة.
هناك فرقٌ غنائية موسيقية عربية شبابية، تقول مختلفاً، وتروي وقائع بأسلوب متجدّد، لكنّها غير قادرة، إلى الآن، على حثّ منتجٍ، أو مستثمر على الأقلّ، على خوض تجربة سينما غنائية
في المقابل، هناك فرقٌ غنائية موسيقية عربية شبابية، تقول مختلفاً، وتروي وقائع بأسلوب متجدّد، لكنّها غير قادرة، إلى الآن، على حثّ منتجٍ، أو مستثمر على الأقلّ، على خوض تجربة سينما غنائية، بالتعاون معها، من دون التغاضي عن مآزق اليوميّ، وشقائه وبؤسه.
الملف، الذي تنشره "العربي الجديد"، منبثقٌ من رغبةٍ في استعادة ماضٍ ثريٍّ باختباراتٍ عدّة، معظمها عالقٌ في ذاكرة جماعية، رغم أنّ غالبية مُعاصري تلك الفترة غائبون عن المشهد الحياتي، حالياً. فالسينما الغنائية العربية، بتصنيفاتها وأنواعها وأمزجتها وأهدافها وموقعها، تعلق في أذهان كثيرين غير مُعاصرين لولادتها، في زمنٍ يشهد انهياراتٍ جمّة في مجالات كثيرة.
كأنّ الاستعادةَ استراحةٌ مؤقّتة من ضغط راهنٍ، مُثقل بخيبات وحُطام وانكسارات.