"الحياة حلوة": حقّ أن تكون فلسطينياً ومخرجاً سينمائياً

02 اغسطس 2024
أتكون "الحياة حلوة" فعلاً بالنسبة إلى الفلسطيني؟ (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في عام 2014، وجد محمد جبالي نفسه عالقاً في النرويج بسبب إغلاق معابر غزة، مما منعه من حضور عرض فيلمه الأول "إسعاف" ووضعه أمام خيار صعب بين العودة أو طلب اللجوء.
- جبالي قرر محاربة البيروقراطية الأوروبية للإصرار على حقه في أن يكون سينمائياً وفلسطينياً، ورفع قضيته إلى المحكمة بدعم من مؤيدين، مما أدى إلى حملة دعم عالمية بشعار "محمد زميلي".
- فيلم "الحياة حلوة" يروي نضال جبالي من أجل حقوقه ويعكس محنة شعبه في غزة، ويظهر كيف يمكن لحياة أعاقتها السياسة الدولية أن تمضي قدماً بفضل الإبداع والأمل.

 

عام 2014، قام محمد جبالي برحلة تبادل فنية مع النرويج. عندها، أُغلقت معابر موطنه غزة بشكل غير متوقّع، وإلى أجل غير مسمّى، بسبب الحرب الإسرائيلية على القطاع. أثار هذا مشاكل عدّة، إحداها أنّ الحكومة النرويجية لم تقبل جواز سفره الفلسطيني، ما يعني أنّه أصبح الآن بلا جنسية. ثم رُفض طلبه للحصول على تصريح عمل، وتعليم نفسه بنفسه ليكون مخرج أفلام يعني أن لا مؤهلات لازمة لديه. لذا، فهو غير مؤهل للحصول على تأشيرة جديدة، ويُتوقّع أنْ يغادر البلد. هذا يعني أيضاً أنه حوصر مع عائلته المضيفة في مدينة ترومسو (القطب الشمالي)، ولن يتمكّن من السفر.

إحدى نتائج هذا الوضع الغريب عدم تمكّنه من حضور عرض فيلمه الأول "إسعاف" (2016) في "مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا ـ IDFA)"، الذي حقّقه مع زملائه الجدد في الشمال. نجح الفيلم، ووضع جبالي أمام خيار مستحيل: إذا عاد إلى غزة، لن يتمكّن من مغادرتها ومواصلة عمله مخرجاً سينمائياً معترفاً به دولياً. لم يرغب في ترك عائلته ومسقط رأسه إلى الأبد، ولا يريد طلب اللجوء في بلد أوروبي بارد. لم يعلم أنه ستمرّ سبع سنوات قبل التمكّن من رؤية عائلته مجدّداً.

اختار محاربة البيروقراطية الأوروبية، للإصرار على حقّه في أنْ يكون سينمائياً وفلسطينياً في الوقت نفسه. شعار "الحياة حلوة" يحاكي كلاسيكية الإيطالي فيدريكو فيلّيني بالعنوان نفسه (1960)، و"الحياة جميلة" (1997) لمواطنه روبرتو بينيني (ثلاث جوائز "أوسكار 1999"، منها في فئة أفضل فيلم أجنبي): أب يحمي ابنه في معسكر اعتقال نازي، باستخدام الفكاهة. مع هذا الشعار، يوجّه جبالي الكاميرا إلى نفسه ليتحكّم بتاريخه، ويؤثّر في مستقبله، ويخلق قصته الخاصة. فمع رفض منحه تصريح عمل، بعد طعون عدّة، رفع قضيته إلى المحكمة، بدعم من مؤيدين عديدين.

 

 

بانتظار قرار المحكمة النرويجية، متّبعاً المسارات الكئيبة للمنطقين السياسي والبيروقراطي، صوّر جبالي نفسه وأصدقاءه وزملاءه النرويجيين في هدوء الطبيعة القطبية المذهلة، المغطّاة بالثلوج. تتناقض هذه المشاهد بشكل صارخ مع الصُّور المؤلمة، والرسائل التي تلقّاها من عائلته وأصدقائه في غزة. في الوقت نفسه، يدعمه المجتمع الفني والسينمائي في ترومسو. لكنْ، رغم أنّ الفلسطيني المبتهج يتلقّى كلّ هذا الدعم، يصدر الحكم، نهاية عام 2016، بعد مناشدات مطوَّلة: يتعيّن عليه المغادرة قبل عيد الميلاد. لكنْ، إلى أين الذهاب؟ أدّى الوضع إلى دعم عالم السينما الإسكندنافية، بشعار "محمد زميلي". لهذا الفيلم الوثائقي تأثير مماثل، إذْ يصعب عدم التعاطف مع المخرج الفلسطيني، الذي حقّق شهرة كبيرة في وقتٍ قصير.

لسنوات، ظلّ جبالي عالقاً في منطقة خالية من البشر، بين شتاء شماليّ النرويج، حيث يشعر بالترحيب من دون السماح له بالبقاء، وغزة حيث منزله الذي لا يستطيع إليه سبيلاً. هذا الجمود يسيطر تدريجياً على ذهنه، وفي كل مرّة يُتّخذ قرار جديد بشأن وضعه، تحضر الكاميرا لالتقاط الشاشة الحكومية الرقمية، ويحضر معها ترقّب ساخر، يجب أنْ يتسلّح به الشخص المعنيّ قدر تمسكّه بشجاعة رفض اليأس.

"الحياة حلوة" يروي كيف ناضل جبالي من أجل حقوقه فلسطينياً ومخرجاً سينمائياً، عندما تقطّعت به السبل في النرويج، بسبب ظروف خارجة عن إرادته. من خلال أرشيفه الشخصي وكاميرته، يشارك حبَّه وحنينه لمسقط رأسه وأصدقائه وعائلته، بينما يحاول بناء حياة جديدة في شمال أوروبا. الفيلم رسالة حبّ إلى غزة، وإلى ترومسو، المدينة التي اختارها، وإلى القوة المتفجّرة للسرد. يوضح الفيلم كيف تمكّنت حياة أعاقتها السياسة الدولية والبيروقراطية من المضي قدماً، من وجهة نظر سينمائي يستخدم كلّ إبداعاته للتواصل مع العالم، وشقّ طريق إلى المستقبل. ينتصر جبالي لنفسه، ولكلّ متمسّك بالأمل، بمواجهة أشباح الحرب والنفي والبيروقراطية، من دون التنازل عن هويته الفلسطينية.

وضعه هذا تجسيدٌ لمحنة شعبه، الذي تعرّض للقمع عقوداً، ويمكنه مجدّداً أنْ يحظى باهتمام العالم، بسبب الوضع الحالي في غزة. الفيلم نفسه يكون أيضاً مرآةً لمحاولات غزة للنجاة والبقاء حيّة، باعتبارها أكثر المدن اكتظاظاً بالسكان في العالم، فضلاً عن حقيقة كونها "أكبر سجن مفتوح في العالم"، بفعل حصار إسرائيلي شامل منذ 17 عاماً. فالفيلم قصة إنسانية عن الحياة، وكيف يقف الناس معاً عندما تشتدّ الأوضاع. في حرب الإبادة الدائرة منذ نحو عشرة أشهر، يصعب الحفاظ على تفاؤل عنوان الفيلم، الفائز بجائزة أفضل إخراج في الدورة الـ36 (8 ـ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لمهرجان "إدفا".

أين وكيف يمكن تحويل المدّ؟ سؤالان لا تجيب عنهما الأفلام، بل ثورة ضمير، وبزوغ وعي، وتبدّل أوضاع مقلوبة.

المساهمون