"لا يُمكن التعرّف على حقيقة شخصية الرياضي بما هو عليه عند اعتلائه القمة، بل من خلال تصرّفاته وسلوكه بعد سقوطه إلى أسفل الوادي". هذه كلمات العدّاء التشيكوسلوفاكي إميل زاتوبك (1922 ـ 2000)، في خطابه الموجَّه إلى العدّائين الشباب عام 1968، بعد خروجه من المنافسة بأعوامٍ عدّة.
إن يسأل البعض: هل سمح صنّاع "زاتوبك" للرياضيّ بأنْ يهبط إلى هذا الوادي؛ فالإجابة تقول إنّ أحد أسباب قوة فيلم السيرة الذاتية "زاتوبك" (2021، إنتاج مشترك بين جمهوريتي تشيكيا وسلوفاكيا، 131 دقيقة) لديفيد أوندتشيتشك ـ الذي افتتح الدورة الـ55 (20 ـ 28 أغسطس/ آب 2021) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" ـ تكمن في أنّه لم يُصوِّر بطله إلهاً، أو أسطورة خارقة. فرغم أنّ زاتوبك كان ولا يزال بطلاً قومياً في تاريخ جمهورية التشيك (فكت ارتباطها مع سلوفاكيا سلمياً بداية عام 1993 وباتتا منذ ذلك الحين دولتين مستقلتين)، ويُعدّ أحد أبرز ممثليها عالمياً (فاز 4 مرّات بالميدالية الذهبية)، اهتمّ صُنّاع الفيلم بلحظات إنسانية كثيرة، فرسموا ملامح شخصة عادية، فيها مزيجٌ من الضعف والقوة، مؤكّدين على أنّه لم يُولد بطلاً، وعلى أنّه ـ رغم أخطاء ارتكبها، ولحظات توتّر عاشها ـ كان قادراً على الدفاع بشجاعة عن آرائه، وعن مساندة زملاء له، كموقفه الرافض للسفر إلى الألعاب الأولمبية، ما لم يُسمح بالسفر لزميل شاب موهوب، فكان له ما أراد، بعد تعنيفه سياسياً.
قصّة رجل لم يقتنع بأنْ يكون في المرتبة الثانية، فأصرّ على النجاح، وحقّق أعلى الأهداف الرياضية.
لم يكن زاتوبك رجلاً إيجابياً تماماً، ولم ينتقل طوال الوقت بين نصر وآخر، وإنْ تحقّق ذلك فترةً غير قصيرة، وإنْ حافظ طويلاً على ابتسامته. لكنّ هذا لم يمنعه من الثورة والاحتجاج كطفل غاضب في بعض اللحظات، مع زملائه ورؤسائه، ومع زوجته الفائزة هي أيضاً بذهبية رمي الرمح، قبل ارتباطهما معاً بقصّة حبّ ونجاح، وهذا لم يمنعها من تركه، والاكتفاء بصداقته، فعاش وحيداً رفقة كلبٍ. هذا ليس مُدهشاً، إذْ كتبا ليلة زفافهما: "يجب ألاّ يكون الأمر مُملاً. يجب ألاّ يكون سجناً".
يبدأ "زاتوبك" عام 1968، بخسارة العدّاء الأسترالي رون كلارك، ونقله إلي المستشفى، ففشل في الفوز بأي ميدالية، وفَقَد فرصته الأخيرة للفوز، فبدأت رحلة الشكّ في مسيرته، وقرّر لقاء إميل زاتوبك، الذي يعشقه، ليحاول فهم شخصيته وأسلوب تفكيره، الذي مَكّنه من الحافظ على الفوز طوال أعوامٍ، بينما انهار آخرون.
اتّخذ ديفيد أوندتشيتشك من تلك العلاقة منطلقاً لتوظيف الـ"فلاش باك"، لعرض حياة زاتوبك ومسيرته الرياضية، وللمرور على اللحظات القوية درامياً، التي ركّز عليها في حياته، عارضاً جولاته الأولمبية الخمس. لكنّ المهم أنّ كلّ جولة تختلف تماماً عن الأخرى في تصويرها، ورغم التركيز طويلاً على الجري لمسافات طويلة، ظلّ الفيلم مشدود الإيقاع، مُحتفظاً بحيويته، بفضل تفاصيل تشويقية، وأخرى عاطفية مؤثّرة، خصوصاً في محيطه، أي مع اللاعبين المنافسين، واستقبال الجمهور، وزملائه، والسياسيين. هناك تفاصيل أخرى عن علاقته بزوجته وقصّة حبّهما، ولحظات التوتّر والارتباك والغضب بينهما، وكيف ظلّ كلّ واحدٍ منهما سنداً قوياً للآخر، رغم الانفصال.
ينتقل الفيلم بين الحاضر (نهاية ستينيات القرن الـ20) والماضي (أواخر أربعينيات القرن نفسه وأوائل خمسينياته)، فنتعرّف على بدايات اهتمام إميل برياضة العدو، والتدريب الحادّ في ممرات السباقات حيث مكان عمله، وتحقيقه النجاحات الأولى، ولحظة لقائه الأول بالفائزة الأولمبية المستقبلية في رمي الرمح، دانا، التي أصبحت زوجته، منتقلاً إلى ذروة مسيرته وشهرته، ثم غيابه.
هناك مَشاهد كثيرة تكشف أنّه كان شيوعياً، وإنْ لم يكن سياسياً. التحق بالجيش بعد الحرب العالمية الثانية، لرغبته في الهرب من حياة إلى أخرى يحلم بها. وفّرت حياة الجيش له سلاماً وظروفاً مثالية لمواصلة تدريباته وسباقاته. ربما لهذا، سمح باستغلال اسمه للترويج للنظام السياسي، فلم يعترض على أنْ يكون وجهاً للنظام، ولم تكن لديه مشكلة في الاعتراف بذلك، إذْ لم يخجل، رغم أن البعض أدانه، والبعض الآخر اعتدى عليه ضرباً وإهانات.
عند التأمّل في أسلوب زاتوبك في التخطيط للفوز ومواجهة المشاكل، يظهر هذا أسلوبَ حياة. لم يكن من ذوي القدرات الخارقة، ولم يُنصت إلى الآراء السلبية للآخرين، ولم يهتم بسخرية البعض منه، ولو تأثّر بها للحظات. أدرك إمكاناته، وآمن بقدراته، ووضع لنفسه هدفاً، وتسلّح بالتصميم الهائل والمثابرة والاجتهاد، وبالرغبة في الفوز. سيناريو الفيلم (ديفيد أوندتشيتشك وأليتسا نيليس ويان ب. موخو) يُصوِّر ـ بأسلوب وتفاصيل مقنعة ـ رجلاً مختلفاً عن الرياضيين الآخرين، إذْ لديه طريقة تدريب فريدة من نوعها، ويتبع أسلوباً اعتقد البعض أنّه لن ينجح، لكنه منحه مجداً.
من العوامل الأخرى المؤدّية إلى نجاحه وتصفيق الجمهور له طويلاً، أنّ الفيلم مليءٌ بالعاطفة المؤثّرة، والكوميديا، والحماسة القوية التي تخلقها المنافسات الرياضية.
الجوانب الفنية كلّها تكاملت وانصهرت في بوتقة واحدة: السيناريو والتصوير والديكور والموسيقى، والأهمّ أداء ممثلي الأدوار الرئيسية، خصوصاً فاتسلاف نَؤشِل، مؤدّي شخصية زاتوبك بنجاح وإقناع كبيرين، وهذا ليس غريباً لأنّه أمضى 5 أعوام في التدرّب على رياضة العدو، استعداداً لتمثيل أحد أهم أدواره. كما أنّه لم يكتفِ بمحاولة الاقتراب الشكلي من الشخصية الدرامية، فقرأ كل شيء عنها، حتى الخطابات الأصلية التي كتبها زاتوبك إلى صديق له، عندما أُغرم بدانا، وأراد التودّد إليها. اكتشف نَؤشِل في تلك المراسلات مدى عمق العالم الداخلي لزاتوبك، ومدى حساسيته المرهفة.