"اشهد يا عالم"... بيروت التي لم ترفع راية بيضاء

21 أكتوبر 2024
من وداع منظمة التحرير الوطني الفلسطيني في بيروت 1982 (دومينيك فاغيت/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في صيف 1982، شهدت بيروت خروج ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية بعد حصار طويل، تزامناً مع الاجتياح الإسرائيلي ومجزرة صبرا وشاتيلا، مما أدى إلى تشتت الفلسطينيين.
- فرقة "العاشقين"، التي تأسست في مخيمات اللجوء السورية، وثقت الأحداث بأغاني ثورية مثل "اشهد يا عالم علينا وع بيروت"، معبرة عن الغضب والحزن على فراق بيروت وصمود المقاومة.
- استمرت الفرقة في التعبير عن الكفاح الفلسطيني، وأعاد أطفال غزة إحياء أغانيها، مما يعكس استمرار المعاناة الفلسطينية وتشبثهم بالأمل والمقاومة.

كان صيفاً بيروتياً حاراً ورطباً. وكانت حشود من الفلسطينيين يلقون نظرتهم الأخيرة على بيروت، وبينهم رجل يعتمر كوفية ويرتدي لباس المقاتل، هو ياسر عرفات. حينها، رأى من كان قريباً منه الدموع تنساب من عينيه، وهو على أعتاب بيروت معقل المقاومة الفلسطينية طوال أكثر من عقد.
لوّح أبو عمار للمدينة التي ستلتهمها النيران الإسرائيلية بعد أيام من خروجه، وصاح: "إني راحلٌ وقلبي هنا"، وأردفها بعبارته الشهيرة: "أيها المجد لتركع أمام بيروت". هكذا، طُوي فصلٌ من صفحات النضال المسلح في لبنان، حيث حضر عرفات مع منظمة التحرير الوطني الفلسطيني
رأى عرفات، آخر ما رآه في بيروت، جماهير مودعةً بالآلاف، ولافتة كبيرة تحمل عبارة خطّها مقاتلو الحركة الوطنية اللبنانية: "لن نقول لكم وداعاً، فبيروت كلها زاحفة نحو فلسطين، ولقاؤنا الأخير على أرض الجليل". كان هذا في عام 1982، سنة الاجتياح ومجزرة صبرا وشاتيلا، وبداية مرحلة دامية جديدة من حياة الشعبين اللبناني والفلسطيني.
أبحرت قوات منظمة التحرير على متن سفن ذهبت بهم في عرض البحار وتشتتوا في سبع دول عربية. أما السفينة الأخيرة، فحملت ياسر عرفات إلى اليونان، حيث لم يبقَ سوى يوم واحد، ويتّجه من بعدها إلى تونس. بقيت بيروت المدينة المحاصرة، والمدمرة، التي وطئتها القدم الإسرائيلية المخربة في نهارٍ كالحٍ كما الليل. يومها، كان للشاعر فلسطيني أحمد دحبور أن يتأمل دمار هذه المدينة التي قصدها وعائلته في تغريبتهم الأولى من فلسطين، ويكتب أغنية فرقة العاشقين الأشهر: "اشهد يا عالم علينا وع بيروت".
شاركت "العاشقين" من دمشق بمساندة لبنان في أثناء الاجتياح، فهبّوا لكتابة أغنيات تروي وقائع الحصار والاجتياح، وفيما بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، وتليها بسنوات حرب المخيمات، من وجهة نظر فلسطينية، على الرغم من أن الفرقة جمعت أعضاءها من أقطارٍ عربية مختلفة، إلا أنها فلسطينية الطابع والهوية، تستعيد فولكلور البلاد، التي احتلت بهويتها وتراثها، وتعيد إنتاجه.
يروي دحبور، في مقالٍ منشور على موقع المنصة الفلسطيني، حكاية أغنية "اشهد يا عالم علينا وع بيروت": "حين وقع الهجوم الصهيوني المجنون على بيروت، كنا في دمشق، وتشكلت ورشة فنية مرتجلة. أنا أكتب، وحسين نازك يلحن، وحسين منذر يغني. ثم سرعان ما تكاملت المجموعة، فعثرنا على ميزر مارديني، الراقص السوري البارع، وبثينة منصور الفتاة الصفدية الموهوبة، ثم رُزقنا أسرةَ الهباش، وهي أسرة فلسطينية تنحدر من أصول جزائرية".
صيغت الأغنية على عجل، وكأنها بيان سياسي حثيث أو تقرير عاطفي وثوري موجه للسواد الأعظم من أبناء القضية، فكانت انفعالاً صادقاً وردّ فعل حانقاً على الأيام الأولى من العدوان على بيروت. وبعد انقضاء الحدث الجلل، باتت أغنية بيروت أيقونة من أيقونات الأغنية الثورية التي انطلق إنتاجها مع انطلاق العمل الفدائي عام 1965.
حملت الأغنية في كلماتها تنويعات انفعالية من غضب وخيبة وثورة، إلى جانب الاعتداد بالمقاومة وصمودها، كذلك الحزن على فراق المدينة التي كانت بمخيماتها وطناً لأولئك الذين هجّرهم الاحتلال من بلادهم، ولاحقهم حتى بلاد اللجوء، فأحرق مخيماتهم وقطع أوصالهم وارتكب فيه المجازر، ولم يبخل بوحشيته على اللبنانيين الذين حُرموا الماء وتُرك بعضهم يموتون عطشاً جرّاء الحصار الذي استمر 88 يوماً.


كان شعار فرقة العاشقين "لفلسطين نغني"، لذا أكدوا تجاوزهم التنظيمات السياسية وتحررهم من الخطاب المتكلّف وانحيازهم إلى النص الوطني العابر للحدود. فالفرقة التي انطلقت من مخيمات اللجوء السورية عام 1977، في ذروة العمل الفدائي الفلسطيني المسلح، كانت بمجمل أعمالها امتداداً للأغنية الفدائية الفلسطينية، وتعبيراً عن الكفاح المسلح ونشاط الفدائيين، واكتسبت بمعيته حظاً وافراً من الاهتمام والشعبية، ولا سيما بعد الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً للشعب الفلسطيني.
في الوقت الذي جمع فيه حسين نازك وأحمد دحبور فريقهما، كانت فكرة جمع الجسد الفلسطيني المتشظي قد تحولت إلى هاجس لدى من اقتُلعوا من أرضهم بالقوة، ونزحوا وعثروا في مخيماتهم ذات الأحياء العشوائية على الوطن المفقود المتخيل والمحاكي للوطن الأول، المتاخم له كما حبل الوريد. ففلسطين ها هنا، تبعد كيلومتراتٍ قليلة عنهم. ولكن من دون أن يعرفوا أنهم هربوا من موتٍ إلى موت، ومن ترحال إلى ترحال. هكذا حمل الفلسطينيون بلادهم أنّى ذهبوا، تماماً كما يقول محمود درويش في قصيدته "طباق": "احمل بلادك أنّى ذهبت".
دحبور الذي لجأ بعد بيروت إلى مخيم النيربين الحمصي، يفتتح قصيدته النثرية بجملٍ، يلقيها محمد الهباش بصوته اليانع على مسرح عدن، بحضور ياسر عرفات. كان حينها الهبّاش في ريعان شبابه قد انضم إلى فرقة العاشقين، وشارك معهم الغناء لفلسطين على المسارح العربية، ولا سيما شريط "الكلام المباح" الأكثر شهرة من بين إنتاجاتهم.
يرثي دحبور بيروت في مطلع قصيدته: "آه يا بيروت.. يا جرحاً بعيد الغور"، وتتكرر لازمة "يا بيروت" طوال الأغنية، التي أصبحت بمثابة رسالة شكر من فرقة العاشقين أو من منظمة التحرير الفلسطينية للمدينة البهيّة المكلومة التي رعتهم ولمّت شملهم. فقدّم الشريط لسرد ملحمة حصار بيروت والمعاناة الفلسطينية اللبنانية.
لم تمضِ بيروت نحو البحر، كما يكمل دحبور قصيدته، وإنما مضى الفلسطينيون مجدداً، خارجين إلى شتاتهم الجديد. كانت بيروت "خيمتهم الأخيرة" كما يقول محمود درويش، حملوا بلادهم إليها، بعد أن غُرّبوا من فلسطين وقتلوا وتعرضوا لأعنف الجرائم وأعتى الاضطهاد.

أما من بقوا، فارتكبت فيهم أشنع الجرائم، وكان معظمهم من الأطفال اليتامى والنساء اللاتي تركهن أزواجهن وآباؤهن وأخوتهن من المقاتلين وخرجوا، فهبّت إسرائيل وأذرعها في لبنان لارتكاب مجازر، نكلوا فيها أبشع التنكيل بأبناء المخيمات، كبقر بطون الأمهات والتمثيل بالأجنّة واقتلاع العيون، وإحراق المخيمات بأهلها، في مذبحة بشعة تفوق الخيال.
الوحشية الإسرائيلية وحصار بيروت والمخيمات ومحاولة اغتيال العمل الفلسطيني اللبناني المقاوم، هو ما شهد عليه العالم، وما يشهد عليه اليوم، كذلك المحارق والمذابح الجماعية والقتل العشوائي. في أثناء الاجتياح كان صوت حسين المنذر (أبو علي) المغني اللبناني صاحب اللهجة الشامية، والصوت الجبلي القوي يهتف كالرعد: "اشهد يا عالم علينا وع بيروت.. ع صبرا والمية ومية". بينما يتمزق الفلسطينيون في مخيماتهم وفي شتاتهم من جديد. وصبرا والمية ومية وبرج البراجنة وعين الحلوة هي المخيمات الفلسطينية التي شهدت معارك طاحنة مع قوات الاحتلال، وفي ذكرها تسرد "العاشقين" معارك طويلة عاشها الفلسطينيون واللبنانيون معاً عندما أطلق الاحتلال غاراته البرية والبحرية على المدينة، وأمطرتهم بالقنابل الفوسفورية والعنقودية التي قتلت كثيراً من أهلها ودمرت بيوتهم وشردتهم.
الأداء التعبيري والانفعالي الذي عمد المنذر إلى استخدامه، ترافق مع صوت آلة المجوز الشامية، وكان النص الثوري بطل الأغنية، التي تتغنى بشجاعة الفدائيين وجسارتهم بالتصدي للغارات الإسرائيلية، وتروي المأساة والخيبة الفلسطينية من الموقف العربي والتواطؤ الأميركي مع إسرائيل. وتنصّ الأغنية صراحةً على أن من لم يرَ الحق من خلال الغربال، فهو لا شك "أعمى بعيون أمريكية". والغربال لا يحجب الرؤية إلا على من لا يريد أن يرى، ولا فرق بين الأعمى وذاك الذي ينظر من منظارٍ الدعاية الإسرائيلية والأميركية لما حصل ويحصل في بيروت وغزة.
ولأن المأساة تأتي وتجلب معها إرثها، أعاد أطفال مدينة غزة إنشاد أغنية "العاشقين" بتصرف، في فيديو لاقى انتشاراً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي. أدّى الأطفال كلمات جديدة للألحان ذاتها، محافظين على مطلع الأغنية، التي أصبحت جزءاً من الذاكرة الجمعية الفلسطينية واستحضاراً لما عاناه الفلسطينيون في فصلٍ من فصول تراجيديتهم الطويلة. في غزة المنكوبة، يغني طفل، يبدو كما لو أنه عاش دهراً من الاضطهاد، بحرقة وبصوت مبحوح: "اشهد يا عالم علينا وهدموا بيوت.. والعرب بنومة هنية.. واللي ما شاف من الغربال غزة تموت أعمى بعيون أمريكية". ويردّد من بعده أطفال آخرون الجملة ذاتها.
غزة تحترق، كما احترقت مدن فلسطينية كثيرة، وكما اشتعل مخيما صبرا وشاتيلا، وبيروت تدمّر وتقصف بالغارات والصواريخ، لكنها كما كانت من قبل "تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء"، تبعاً للعنوان الذي أوردته صحيفة السفير في أثناء الاجتياح، والفلسطينيون يخرجون مودعين بيروت من دون أن يرموا أسلحتهم ولا أن يرفعوا الأعلام البيضاء: "لما طلعنا ودعناكِ يا بيروت.. وسلاحنا شارة حرية.. لا راية بيضا رفعنا يا بيروت.. ولا طلعنا بهامة محنية". كان الموت أقرب إلى أبناء بيروت، فلسطينيين ولبنانيين، من الاستسلام.
لم تمت بيروت ولم تستسلم، بل انتصرت. في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، فرضت العمليات النوعية المتتالية لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، "جمول"، على العدو الانسحاب، إذ بدأت قواته تجوب شوارع مدينة بيروت موجهة نداء استغاثة عبر مكبرات الصوت: "يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار علينا نحن منسحبون". خلّد أحمد قعبور هذا المشهد في مطلع أغنيته "والله وطلعناهم برا".

سعت منظمة التحرير الفلسطينية، بعد الثورة التي قادتها فتح عام 1965، لإعادة تشكيل الهوية التي مزقها الاحتلال، ولم تجد أفضل من بيروت متنفساً للثقافة والفنون، حيث أتاح الوجود الفلسطيني فيها إنشاء مؤسسات ثقافية فلسطينية الطابع والهوية.
ضمت فرقة العاشقين التي أسسها دحبور مع الموسيقي المقدسي حسين النازك، شباناً وشابات من أبناء الشتات ومن العرب، ومنهم من ذاق لوعات الاجتياح مباشرةً، مثل الشاعر أبو عرب الذي استشهد ابنه في اجتياح بيروت، وجمع المشروع سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، فأصبحت فرقة العاشقين مشروعاً فلسطينياً شامياً لبنانياً بامتياز.

المساهمون