استهداف الصحافة في أوروبا: عداوة تتجدّد

17 فبراير 2021
لافتة "الحرية للإعلام" في بولندا في نوفمبر الماضي (عمر ماركيز/Getty)
+ الخط -

تشهد أوروبا منذ سنوات تزايداً في حالات انتهاك حرية الصحافة حتى وصلت إلى 201 انتهاك من أصل 500 شهدها العالم عام 2020، كما عرفت تراجعاً في تمكين الصحافيين من حقّ الوصول إلى المعلومات. وجاءت جائحة كورونا لتزيد المصاعب. إذ تزامن الوباء مع استهداف اليمين القومي المتشدّد لوسائل الإعلام المستقلة، بحسب ما يرصد "المعهد الدولي للصحافة" و"مراسلون بلا حدود"، وغيرهما من المؤسسات. وبذلك تتخذ الانتهاكات الأوروبية شكلاً مختلفاً عن التجاوزات "التقليدية" التي تمارسها حكومات شرق القارة، وفي دول الجوار الأوروبي، كما في روسيا وروسيا البيضاء (بيلاروسيا).

وإذا كانت "مجموعة دول الشمال"، أي فنلندا والسويد والنرويج وأيسلندا والدنمارك (معها جزيرتا غرينلاند والفارو) تتصدّر مؤشرات حرية الإعلام، فإنّ الانتهاكات في شرق ووسط القارة أو في غربها، تؤشر إلى أوضاع مقلقة.

ضمان حرية واستقلال الإعلام في الاتحاد الأوروبي تحت ضغوط

ورغم أنّ كثيرين يرون أن التنكيل بالصحافيين قد ازدهر في أوروبا، مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2016 فإن الحقيقة مختلفة. إذ إن علاقة الصحافة متوترة بالسياسيين، في المجر، وبولندا، وجمهورية التشيك، منذ سنوات. ولم يساهم ترامب وهجومه على الإعلام الأميركي، سوى بترسيخ السياسة الرسمية في هذه الدول.

فمواقف الرئيس التشيكي، ميلوش زيمان، على سبيل المثال، من الصحافة والصحافيين، لا تختلف عن مواقف زميله في المجر، فيكتور أوربان. فالرجل يحمل مواقف سلبية جداً من الصحافيين، مقلداً سياسات، رئيسي روسيا وروسيا البيضاء، ألكسندر لوكاشينكو وفلاديمير بوتين الذي سقط في عهده كرئيس وكرئيس حكومة عدد من الصحافيين الذين حاولوا النبش في فساد الحكم.

زيمان في جمهورية التشيك، ومعه معسكر قومي متشدد، ينتهج منذ 10 سنوات موقفاً تحريضياً علنياً ضد الصحافيين، وصل إلى أوجّه في أعقاب "أزمة اللاجئين" في أوروبا بين 2015 و2016. كما اقتنصها زميله في بودابست أوربان، للترويج لضرورة التحكم بوسائل الإعلام، من خلال تكتيكات تضييق وشروط وتحريض تجعل من الصحافة غير الخاضعة بمثابة "عدو الشعب". 

رفع ميلوش زيمان رشاش كلاشنكوف في أكتوبر/تشرين الأول 2017، كتب على أخمصه "باتجاه (أو في مواجهة) الصحافيين"، في تهديد مباشر للصحافة، على طريقة أغلب ديكتاتوريي العالم الثالث. واتهم الصحافة قائلاً إنها "يسارية متطرفة" أو "ليبرالية مدعومة من (الملياردير الأميركي-المجري) جورج سورس" أو أنها "غير وطنية".

تشهد المجر وبولندا وجمهورية التشيك وبيلاروسيا تضييقات على الصحافيين، لحقت بها إجراءات مقلقة في فرنسا

ذلك التصرف ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير الذي صدر عن رئيس دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. فلم يمضِ وقت طويل بعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، حتى عاد زيمان ليذكر الصحافيين بمصير خاشقجي، من خلال نكتة عن "دعوتهم إلى السفارة السعودية". 

الأمر لم يقتصر على جمهورية التشيك، أو دول أوروبا الوسطى والشرقية، فمشهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أثناء زيارته إلى بيروت العام الماضي، بعد انفجار 4 أغسطس/آب، موبخاً الصحافي جورج مالبرونو، يشير إلى أن غرب وشمالي أوروبا، ليسا بمنأى عن الانتهاكات إذا لم ترُق لبرامج السياسيين.

وهذا التصرّف من ماكرون دُعّم بتشريعات وقرارات واعتداءات توضح مسار تراجع حرية الإعلام على حساب تقوية الشرطة وحماية أفرادها من المحاسبة في ملفات العنف والعنصرية وغيرها. وهو ما ظهر خلال التظاهرات ضدّ قانون الأمن الشامل في باريس، وحتى في قرارات إبعاد الصحافيين عن مخيمات اللجوء كي لا يتم تصوير عمليات الفضّ والعنف.

وفي الفترة الماضية، استهدفت السلطات المجرية والبولندية وسائل الإعلام، استكمالاً لإجراءات قائمة منذ مدة طويلة. فلم يكتفِ رئيس الوزراء فيكتور أوربان باستهداف الوسائل التي كانت تقليدياً مقرّبة من ساسة ما بعد انهيار الكتلة الشرقية، إلا أنّه ذهب بعيداً في محاولاته. وفي سبيل إسكات الأصوات المنتقدة، ذهبت بودابست منذ صيف 2020 نحو خطوات أخرى لتقييد حرية الإعلام، من خلال استهداف أشهر بوابات الأخبار الناقدة لسياسات الحكومة،"إندكس" Index.hu، والأسبوع الماضي سحبت رخصة آخر إذاعة مستقلة في البلد، كلوب راديوKlubradio وهو ما تراه وسائل إعلام أوروبية غربية، بما فيها الدنماركية والسويدية والألمانية بمثابة "حفر قبور للتعددية والتنوع الإعلامي". 

وارسو بدورها أرست خطوات إضافية في مجال تقييد الحريات، رغبة في تجيير الإعلام في مصلحة القوانين التي تستهدف التعددية والديمقراطية، من خلال قانون الحزب الحاكم "النظام والعدالة" لفرض ضرائب على الوسائل الإعلامية. وهو ما دفع نحو 40 وسيلة إعلامية إلى مقاطعة أخبار الحكومة يوم 10 من الشهر الحالي، كخطوة احتجاجية على ما سمته "بيلد الألمانية" و"إنفورماسيون" الدنماركية "إضعاف وإبادة جزء هام من وسائل الإعلام البولندية". 

فالقانون الأخير يؤثر على الوسائل التي تجد صعوبة في التمويل من خارج عائدات الإعلانات، وهو ما يضعف عملياً الإعلام الخاص لمصلحة تدفق الأموال لمؤسسات الدولة الإعلامية، وبالأخص قناة "تي في بي" TVP، ذراع الحكومة لتسويق نظرياتها وقوانينها المتشددة. 

ورغم تحذير المفوضية الأوروبية من تزايد استهداف سلطتي القضاء والإعلام، تواصل بعض الحكومات مخططها لتضييق الخناق على المشهد الصحافي. حيث تروّج وسائل الإعلام، بعد تحويلها إلى أدوات بيد الحكم، لما يسمى "إصلاحات" في عدد من الدول التي تتجه نحو التطرف القومي المحافظ.

تزايد استهداف سلطتي القضاء والإعلام، حيث تروّج وسائل الإعلام، بعد تحويلها إلى أدوات بيد الحكم، لما يسمى "إصلاحات"

في المجر، وبعد سنوات من منهجية استهداف الصحافة، بات حزب رئيس الوزراء "فيديز"، يوسع استهداف السلطات المستقلة، بينها سلطتا القضاء والإعلام، بمجموعة قوانين جعلت فيكتور أوربان يسيطر على نحو 80 في المائة من وسائل الإعلام. وفي بولندا تسيطر حكومة حزب "القانون والعدالة" (يمين قومي محافظ) على نحو ثلث وسائل الإعلام ومنافذ الإنترنت الإخبارية، من خلال إجراءات وقوانين متراكمة، كان آخرها فرض ضريبة على وسائل الإعلام الخاصة لقطع شرايين حياتها. 

يعني ذلك أن أوروبا الشرقية تشهد "ضرباً تحت الحزام" للصحافة النقدية وصناعة المحتوى الرقمي في مجتمع يعاني تراجعاً في مستوى الحريات والالتزام بمعايير وقيم العضوية في النادي الأوروبي. واعتبرت "دي تسايت" الألمانية أن الاستهدافات الأخيرة تأتي في سياق مستمر "لاستهداف القضاء ثم وسائل الإعلام، وهو ما يعني تعزيز سلطة ونفوذ الأحزاب (القومية) الحاكمة"، وذلك من خلال سياسة تجفيف تمويلها بتشريعات تخدم السلطة، وبالاستحواذ عليها، عبر أذرع مقربة من السلطة. وما يُسهّل تمرير تلك القوانين في بولندا على وجه التحديد أنها تعيش حالة انقسام سياسي، واستقطاب أفرزته وقائع ترتبط بنفوذ روسي خارجي، خصوصاً في شرقي البلد. من الواضح أن وارسو تعيش أفضل أوقات تحالف النفوذ المالي والسلطة السياسية تحت حجة "بولندة الإعلام" (أي بمثابة تأميم الصحافة). 

والحقيقة أنّ هذا التراجع لم تسلم منه بريطانيا نفسها، إذ دعا محررو الصحف الوطنية في المملكة المتحدة الحكومة إلى حماية قانون حرية المعلومات، في أعقاب انتقادات مفادها بأن الجمهور يتعرض لعرقلة غير عادلة عندما يسعون إلى التدقيق في عمل المنظمات الرسمية. وقبل أسبوع، وقّع ستة محررين في صحف تتراوح من "ديلي تيلغراف" إلى "ميرور" على رسالة مفتوحة بتنسيق من openDemocracy تطالب بإجراء تحقيق عاجل في هذا القانون وسط مخاوف من تعرض الجمهور للحجر. وفي الرسالة، أثار المحررون مخاوف جدية بشأن الصعوبات التي يواجهها الصحافيون والتجربة العامة عند محاولة استخدام تشريعات حرية المعلومات عبر الحكومة لطلب معلومات من الملفات الرسمية.

انتهاكات لحق الصحافة والجمهور في الوصول للمعلومات

وشهدت أوروبا عبر تاريخها نتائج دموية لتحالف سلطتي السياسة والمال. نذكر على سبيل المثال ما حدث في مالطا عند تصفية الصحافية الاستقصائية دافني كاروانا غاليزيا، في 2017؛ وكانت هذه الأخيرة تحقق في تورط أسماء سياسيين مرموقين بـ "أوراق بنما"، وهو ما أشارت إليه مجلة "فوربز" صيف العام الماضي 2020، في تقرير عن بطء التحقيق في مقتلها ودوافعه. 

وكان 2018 شهد مقتل الصحافي السلوفاكي يان كوسياك (28 سنة) وخطيبته ماترينا كوسنيروفا (27 سنة) على خلفية تحقيق استقصائي عن فساد نخب سياسية ورجال أعمال. وقد قتلا على طريقة المافيا، كما أشارت وسائل إعلام أوروبية. ويستمر التحقيق في مقتله حتى اليوم، رغم اعتقال السلطات في ربيع العام الماضي 2018 عدداً من الأشخاص المشتبه بهم، فما يزال الغموض والسرية يكتنفان تلك الحادثة. 

مزيج سام وخطر من الانتخابات غير العادلة وديكتاتورية الأغلبية تشهدها أوروبا

منظمتا "الأمن والتعاون في أوروبا" و"فريدوم هاوس" حذرتا من التطورات السلبية التي يتردد صداها في أوروبا الغربية في مجال تراجع حرية الصحافة. واعتبرت تقارير لـ "فريدوم هاوس" الأميركية أن ما تشهده القارة العجوز يستدعي دق ناقوس الخطر باعتباره "مزيجا ساما وخطرا من الانتخابات غير العادلة وديكتاتورية الأغلبية". وتؤشر تلك التقارير إلى زيادة تبني سياسيين أوروبيين لنهج "الرئيسين الروسي والصيني في قمع الحريات الصحافية والديمقراطية عموماً".

ويبدو أن إقدام قادة شعبويين على اعتبار تقييد الحريات يقوم على أساس أن "الأغلبية التي تنتخبهم تؤيد إجراءاتهم"، ولكن ذلك مؤشر على أننا أمام ديمقراطيات جزئية تجد نفسها في صدام مع الديمقراطيات الليبرالية. 

المساهمون