استمع إلى الملخص
- **الأزمات الشخصية والعائلية**: العائلة تعاني من الفقر ومشاكل فردية، مع رياضي معطوب يرغب في الخلاص، وزوجة مغرية بمبلغ خيالي، وأبناء يعانون من البطالة والانتظار.
- **الرموز والدلالات السياسية والاجتماعية**: الفيلم يعكس واقعًا اجتماعيًا واقتصاديًا خانقًا، مع دلالات سياسية تشير إلى تسلط النظام الحاكم، وجمال كأب متسلط يعكس هذا الواقع.
منذ اللحظات الأولى لـ"اختيار مريم" (2023)، للمصري محمود يحيى (كتابة وإخراجاً وإنتاجاً)، يتّضح أنّ عائلة جمال (محمد رضوان) تتفكّك ببطء، تزداد وتيرته في مسار الحبكة. في اللحظات الأولى نفسها تقريباً، يُكتَشف أنّ في الاشتغال الدرامي شيئاً من فانتازيا أو غرائبيّة، إذْ يظهر أحد الأبناء الثلاثة (شابان وصبيّة) مرتدياً زيّ فيلٍ، سيرتديه وقتاً طويلاً، قبل إظهار رأسه منه، ثم خلعه.
لكنّ الفانتازيا والغرائبية غير فاعلتين خارج إطار هذا الزيّ، مع أنّ "الحياة اليومية" التي تعيشها العائلة، وآخرون أيضاً، أقرب إلى فانتازيا وغرائبية. رغم هذا، في "اختيار مريم" مسائل أهمّ، وإنْ كان اشتغاله السينمائي حِرفيّاً من دون إبهار بصري وجمالي ودرامي.
رياضيّ مُصاب بعطبٍ كبير (شلل شبه كامل) يريد خلاصاً من حياةٍ لم تعد حياةً. امرأةٌ ترعاه، فهو مُقيمٌ بمفرده في شقّة فاخرة، تخشى تنفيذ طلبٍ يجهد في إقناعها به. المرأة زوجةٌ وأمّ (إنّها زوجة جمال، تؤدّيها رشا سامي)، وعائلتها تلك تعيش التفكّك قبل الانهيار. الفقر سببُ تفكّكٍ يحصل بروية، لكنْ بعنف مبطّن. مع هذا، لن يكون الفقر سبباً واحداً أساسياً، فمصائب كلّ فردٍ، وإنْ تنبثق منه، تحضر في سلوكه وتفكيره وانفعاله، فلكل فردٍ مأزقٌ ـ حكاية.
الرياضي، المعطوب جسدياً والمنهار نفسياً، يُغري المرأة (الزوجة الأمّ) بمبلغ "خيالي" من المال، لتحقيق رغبته. تردّدها خانق، فالقتل حرامٌ، والحاجة إلى المال تُلحّ عليها بالموافقة. الزوج ـ الأب محاصرٌ في منزله بين ابنٍ غير عاملٍ، وابنة تنتظر عودة خطيبٍ من سفرٍ لإتمام زواج، بعد فشل أكثر من خطوبةٍ سابقة. الابن الثاني مختفٍ في زيّ فيل، يتجوّل به في المنزل، ويصعد به إلى السطح. النظرات غاضبة وقلقة. لا مال يكفي. صدامات، بعضها صامت، وسلطة الأب تواجِه اختباراً يُهدِّد كيانها.
أزمات أخرى: الجنس دافع للابن الفيل إلى مشاهدة أفلام إباحية برفقة صديقٍ، قبل شعورهما بقرفٍ من فعلٍ موبوء كهذا، فيلجآن إلى الصلاة لتكفيرٍ مطلوب عن ذنبٍ مُرتَكَب. تريد الأم استشارة رجل دين، لكنّها تتردّد، كتردّدها الخانق إزاء طلب الرياضي. أناسٌ يظهرون ثم يختفون، ولكلٍّ منهم/منهنّ تأثيرٌ في مسلك أو تصرّف أو تفكير. شخصيات عابرة تلمس جرحاً في أفرادٍ أساسيين، قبل انصرافهم/انصرافهنّ إلى مشاغل خاصة بهم/بهنّ. دائرة تنفتح على خرابٍ يظهر رويداً، ويبلغ ذروة انفلاشه، قبل انحداره إلى مرتبةٍ يبدأ منها، فتنغلق الدائرة، موحيةً كأنّ شيئاً لن يتغيّر. "اختيار" مريم يُفترض به أنْ يكون خلاصاً، أو مزيداً من غرقٍ في حالة ضاغطة تُقيم العائلة فيها منذ البداية.
هناك وحشٌ يتململ، ساعياً إلى خروج حاد من حيّزه. الفقر والخيبة وانسداد كلّ أفق، واكتشاف الجسد ورغباته، والسطوة الخفيّة للدين، والخيانة الزوجية، والخَطَب الأسريّ، والاستغلال، والنَصب. هذه غير باقيةٍ مجرّد مفردات، في سياقٍ يُعرّي بيئة واجتماعاً. هذه وقائع عيش حيّ في اختناقٍ عنيف.
لا جديد يقول اختلافاً أو تجديداً في صُنع "اختيار مريم". هذا غير حائل دون تنبّه إلى متانة نصٍ سينمائي يسرد، بشفافية وبساطة، غلياناً خانقاً. وهذا، إذْ يظهر تدريجياً في تصرّفٍ فردي، غير محصورٍ في أزمة اجتماعية ـ اقتصادية يعانيها كثيرون وكثيرات، في مصر ودول عربية عدّة تحديداً. فتنقيبٌ أدقّ في خفايا يُبيّن دلالاتٍ سياسية لها، فأزمة كهذه مردّها سطوة نظام حاكمٍ وتسلّطه، والنظام الحاكم سياسي وأمني أولاً ومديدٌ في سنين سابقة، وثقافي وتربوي أيضاً، فيتكامل هذا كلّه في إحكامِ القبض على نفوس وأرواح وأنماط تفكير.
مثلٌ على ذلك: لقطات عدّة لجمال تُظهره في أبهى صورة متسلّطاً مستبدّاً، وجسد الممثل، كما نظراته وحركته ونبرة صوته، مساهمٌ فعليّ مع أداء حِرفيّ على إكمال تلك الصورة. إنّه أبٌ وزوج، أي سيّد العائلة. إنّه سائق سيارة أجرة مُصابٌ بعطبٍ جسدي، فيلزم منزله، من دون أنْ يلتزم به، إذْ لديه حياة سرّية تنكشف لاحقاً (علاقة بشابّة)، وخارج المنزل يجد نفسه محاطاً بمتسلّطين يُشبهونه، بشكلٍ ما.
كلّ محيطٍ به في العائلة يصنع، بطريقةٍ ما، تلك الصورة. قلقٌ وخوف منه، أو تردّد من مطالبته بشيءٍ. ابنه البكر متمرّد، والأم حائرةٌ في كيفية إنقاذ ما يُمكن إنقاذه (إنْ يكن هناك ما يُمكن إنقاذه أصلاً)، والابنة تريد خلاصاً، لكنّ الزواج مرتبك، فللخطيب تسلّط أيضاً، وهذا جزء من تربيةٍ في مجتمع ذكوري.
"اختيار مريم" مرآة تعكس واقعاً، وهذا كافٍ.