لم يكن سهلاً أن يختار إيمان البحر درويش (1955) طريقه الفنية، ولا أن يرسم لنفسه شخصية غنائية خاصة. ظهر في الحياة الغنائية في السنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي، أي مع الجيل الذي لم يعد يمنح الطرب اهتماماً كبيراً. ولأنّ هذا الجيل تتعدد اهتماماته وتختلف؛ فقد خاطبت أغنيات إيمان البحر قطاعاً واسعاً بدا متعطشاً إلى رومانسية حديثة، تعبر عن موقف يرفض الخضوع لما "تعبئه" شركات الكاسيت، ويقاوم فرض أنماط غنائية تحمل من الصخب، بقدر ما تفتقد إلى المعنى. وربما كانت هذه هي نفس الأسباب والسياقات التي ساعدت في صعود عدد من الأصوات المؤثرة، وفي مقدمتها: علي الحجار، ومدحت صالح، ومحمد الحلو.
لكن إيمان البحر جاء وهو يحمل عبء الانتماء إلى سيد درويش، فأن تكون مطرباً حفيداً لهذا الفنان المؤثر في تاريخ الغناء المصري والعربي، فإن هذا ولا ريب يرتب قدراً من المسؤوليات، يفوق ما قد يمنحه من مزايا، فالجمهور سيتطلع، ليس إلى مجرد مطرب، لكن إلى مطرب هو بنظرهم وريث فني شرعي لـ"فنان الشعب"، ما يعني أنهم ينتظرون منه ما لا ينتظرونه من غيره.
كانت إعادة إنتاج تراث الشيخ سيد درويش، وتقديمه بصورة حديثة وبتوزيع جديد، من أهم أسباب تعرف الجماهير إلى إيمان البحر. بدأت تجربته مع هذا الجانب أواخر عام 1982، بشريط أخذ عنوان "الوارثين"، وتضمن عدداً من ألحان الشيخ سيد هي: الجرسونات، دنجي دنجي، يا هادي يا هادي، الأروام (محسوبكو انداس)، الوارثين، سي قفاعة، يا حلاوة أم إسماعيل، يا ولد عمي، والله تستاهل يا قلبي. لم يحقق الشريط النجاح الجماهيري المتوقع، لكن بعد إطلاقه بعدة أشهر أتيحت لإيمان البحر فرصة الظهور في التلفزيون، وقدم أغنية جده "محسوبكو انداس"، فكانت سبباً في شهرة واسعة وسريعة، وأيضاً كانت سبباً لتعرّف الأجيال الجديدة على تراث الشيخ سيد، بعيداً عن الأربعة أو الخمسة ألحان التي يكررها التلفزيون بأصوات مختلقة.
في هذا السياق، يرى الناقد الفني عبد الرحمن الطويل، أنّ إيمان البحر درويش حمل على عاتقه خلال سنواته الأولى إحياء تراث جده وتقديمه بشكل عصري، ونجح في ذلك، فقدم بعض أعمال الشيخ سيد في الأفلام التي شارك في بطولتها خلال عقد الثمانينيات، وأسهم في هذا النجاح تعطش الناس لأعمال سيد التي لم يحظ كثير منها بتسجيلات تساعد على انتشارها نظراً لقدم وفاة الشيخ الجد، لكنّ مناسبة كثير من ألحان سيد -بخاصة المسرحية- لكلّ العصور، ضمنت لإيمان البحر درويش نجاحاً كبيراً في تقديمها بعد ميلادها بأكثر من ستين سنة.
ويعتبر الطويل أنّ سيد درويش مثل نقطة قوة لحفيده في بداياته، لكن اعتماد إيمان البحر على تراث جده وحده مثل نقطة ضعف وتجربة لا يمكن الاستمرار فيها طول الوقت، فليس "التراث" منحصرًا في سيد درويش فقط، ولا بد للمطرب المعاصر من منتجه الخاص، كما أن إيمان البحر ركز في الأكثر على الأغاني المسرحية الخفيفة وذات الطابع الاجتماعي من تراث جده، ولم يول الجانب الطربي المتمثل في أدواره وموشحاته عناية كبيرة، ولعل هذا راجع إلى طبيعة صوت إيمان البحر درويش، فهو صوت جميل سليم، لكنه ليس بالقوي وليس واسع المساحة، وهذا يجعل أداءه للأعمال الطربية الكبرى مجازفة قد لا يستسيغها الجمهور، ورغم أنّ أحداً من مجايليه لم يقم أيضاً بهذا الدور، فإنّه على العكس منهم حفيد سيد درويش وحامل لواء فنه، والأعمال الطربية شطر مهم من تراث سيد درويش الذي لم يكن يصح تجاهله.
يشير الطويل إلى أنّ إيمان البحر قدم عدة ألبومات وكليبات في الثمانينيات والتسعينيات وبدايات الألفية، بعيداً عن تراث جده، وكانت له إسهامات في الأغاني الوطنية وأغاني الأطفال. ولعلّ أجيال الثمانينيات والتسعينيات لا تنسى أغنيته الشهيرة للأطفال "في البحر سمكة". يضيف الطويل: "كان دائماً من أنصار الفن النظيف المترفع عن الإسفاف غناءً وتمثيلاً، وهذه ميزة أخلاقية تُحسب له في حقبة عزَّ أن يلتزم فيها مطرب معايير صارمة في هذا الجانب، لكنها في الوقت نفسه مثلت عيباً تنافسياً جعله يبتعد كثيراً عن معايير السوق، ما أدى إلى تراجع إنتاجه بعد عام 2010 وتراجع الاهتمام به، وربما في هذه الحقبة وجد مساحته في العمل النقابي، فكانت ولايته لنقابة الموسيقيين صفحة أخرى في حمله للواء الفن النظيف ومحاربة الإسفاف، وهو في المجمل نموذج مشرف في احترامه لفنه ومعاييره وجمهوره، ولهذا كان التعاطف كبيراً مع أخبار حالته الصحية الأخيرة".
استطاع إيمان البحر أن يكون معبراً عن قطاعات واسعة من شباب عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وقد تفاوتت أغنياته في مدى جماهيريتها وقبولها الشعبي. لكنّ لا أحد في مصر، يمكنه أن ينسى تلك الأغنية السينمائية المحلقة في معانيها ولحنها "أنا طير في السما" والتي قدمها إيمان ضمن فيلم يحمل نفس الاسم، عام 1988، بمشاركة بطولية لآثار الحكيم، وإخراج حسام الدين مصطفى. كتب كلمات الأغنية عوض بدوي، ولحنها فاروق الشرنوبي، ولعلّ الكاتب والملحن وربما المغني لم يخطر ببال أحد منهم أن تحقق تلك الأغنية هذا النجاح الجماهيري الواسع. صوت إيمان البحر، وأداؤه، والسياق الذي جاءت خلاله الأغنية في الفيلم، كلها عوامل اجتمعت لتمنح هذا العمل جماهيرية واستمرارية، لتبقى جزءًا من ذكريات جيل كامل.
بدوره، يوافق الناقد الموسيقي فادي العبد الله على أنّ "أنا طير في السما" مثلت الميلاد الجماهيري الحقيقي لإيمان البحر. يقول: "في لبنان أواخر أيام الحرب ثمانينيات القرن الماضي، وصل إلينا اسم إيمان البحر درويش من خلال عرض الأفلام في التلفزيونات. برز أساساً في "أنا طير في السما" وفي استعادات لأغاني سيد درويش المسرحية الخفيفة، فعرفنا أنّه حفيد صاحب الاسم الكبير الذي لا شك كان عبئاً على من حملوه بعده. كما عرفنا من خلاله ألحاناً لسيد درويش غير تلك التي استهلكت من قبل في استعادات متنوعة مثل "زوروني" و"طلعت يا محلى نورها" و"الحلوة دي". هكذا برز إيمان البحر ممثلاً وسيماً وصوتاً رقيقاً يعيد بعث أغنيات خفيفة الظل، أو يغني في الحان معاصرة ما يماشي الغناء الرومانسي السائد في تلك الفترة".
يضيف العبد الله: "يبدو أنّ عبء "المحافظة" على إرث أقدم ونظرة محافظة ربما منعا إيمان البحر من اللعب والتجريب في الموسيقى بحثاً عن أسلوب خاص به. لذا عندما تراجعت السينما وانهارت تقريبا الأفلام الغنائية في مصر (والتي استمرت بتقطع وخجل مع أمثال إيمان البحر ووليد توفيق وآخرين من ذلك الجيل)، لم يجد الرجل مجالاً لاستمرار الحضور، فقد سجن نفسه في صورة محدودة لوراثة عصرين مختلفين: عصر جده وعصر الرومانسية التي انتهت مع الأغنية الشبابية آنذاك، وفقد المجال الذي كان يسمح لوسامته وخفته بالتألق". ويتساءل العبد الله عن الأسباب التي أبعدت إيمان البحر عن التفكير في تحويل أغنيات جده إلى "فيديو كليبات"، فربما كانت "ستمد قليلا في عمر نجاحه، لكنها كانت في آخر الأمر ستستنفد أغراضها بسرعة. في النهاية، يتحول دور الوريث الى دور "الحارس" أو الوصي، وخارج الحنين لا نجد متسعا كبيرا لتحمل عظات فنية أو أخلاقية. هكذا خسرنا فرصة للتفكير بشكل أعمق في معنى استعادات سيد درويش، مثلما خسرنا وجها كانت الكاميرا تحبه".
في الأسابيع الماضية، انشغل الرأي العام في مصر والعالم العربي بإيمان البحر درويش، وحالته الصحية، وكلام متضارب حول مضايقات تعرض لها بعد تعبيره عن آراء سياسية معارضة. وتحت ضغط مواقع التواصل، وعشرات آلاف التدوينات المتعاطفة، تحدث نقيب الموسيقيين، مصطفى كامل، عن ضرورة التواصل مع أسرة درويش، مؤكداً أنّه يبحث عن عنوانه أو رقم هاتف أحد أفراد أسرته.
وأيضاً، وبسبب الحالة الجماهيرية، أعلنت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، القريبة من أجهزة الدولة تكفلها بعلاج "الفنان الكبير". لكن من المؤكد أن هذا الاهتمام الجماهيري الواسع وفيضان الدعوات بالشفاء لم يصدر عن أسباب سياسية محضة، ولم يكن التعاطف مجرد شعور يمكن أن يحمله الناس تجاه أي إنسان. وإنما كان التعاطف مع مطرب، شكل جزءا مهما من ذاكرة المصريين ووجدانهم، أسال دموعهم وهو يصرخ: "يا بلدنا يا بلد.. هو من إيمتى الولد.. بيخاف من أمه.. لما في الضلمة تضمه". كان معبراً صادقاً عن كل من أراد أن يرفرف بجناحيه وهو يشدو: "أنا طير في السما".