كلّ حدثٍ لبناني يُصبح، سريعاً، مجرّد ذكرى. الأحداث كثيرة، ومعظمها ضاربٌ في صميم العيش اليومي والعلاقات المعطوبة بين الناس. الانهيار يُصبح ارتطاماً بقاعٍ لا مثيل له، ومع هذا يُصبح مجرّد ذكرى. بعد أيام، يريد البعض احتفالاً بـ"ذكرى" مرور عامٍ على انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020)، والانفجار جريمة، والفاعل معروفٌ، والحراك ـ من أجل عدالة محقّة لقتلى الجريمة وجرحاها، وللمُصابين بأعطابٍ مختلفة بسببها ـ حكرٌ على أهلٍ وأقارب ومعارف قلائل.
بيروت تغرق في العتمة الكاملة. هذا واقع، لا شعر ولا انفعالات. بيروت لن تخرج من رمادها، كطائر الفينيق الغارق، أكثر فأكثر، في أسطورته المُثيرة للحزن والاكتئاب أصلاً. كلّ شيء آيل إلى زوال، والزوال، كما يبدو الآن، يحول دون انتعاشٍ أو نهضة. كلّ شيء آيل إلى زوال، باستثناء فساد ونهب ووقاحة يمارسها متسلّطون على البلد وناسه، قادرون على ابتكار المستحيل وغير المتوقّع في صُنع فسادهم ونهبهم ووقاحتهم. الغضب يشتعل فرادى، فالبلد معروف بـ"مبادراته الفردية"، والمبادرات تلك صانعة أدب وفنون واقتصاد ومال وسياحة وصحافة وإعلامٍ، كصُنعها فساداً ونهباً ووقاحة.
الغضب فردي، ككلّ شيء آخر. العصابات الحاكمة أفراد يجتمعون على شرٍّ، ويختلفون في كيفية تقاسم غنائمه، وبين الغنائم أناسٌ، يُدرك أفراد العصابات تدجينهم بفتاتٍ مؤقّت، أو بسحقهم عند ارتفاع صوت للتعبير عن ألم. التوتر حاصلٌ في اللامرئيّ أيضاً، في هواء ملوّث، وفضاء عابق برطوبة قاتلة، كما في شارع مكتظ بزحام، يتناقض مع فقدان البنزين أو ندرته. حديدٌ يُخفي وراءه محلاّت مقفلة، وعتمة النهار في محلاّت مفتوحة أبشع من بيروت المعتمة. سهرات في ملاهٍ باذخة تمتلئ بأناسٍ يظنّون أنّهم "يعشقون الحياة"، ويعتقدون أنّهم "يهربون من الموت"، ولو للحظات؛ وسهرات أخرى في أمكنة صغيرة، في أزقّة ضيّقة، في شارع الحمرا، يلتقي فيها قليلون لتمضية وقتٍ بائس في عتمةٍ تزداد سطوة وتخريباً.
الغضب فردي، وهذا غير نافع لتغيير أو انقلاب. تحديد مواعيد معينة لاحتفال بذكرى، لعلّ الاحتفال يُتيح للغضب الفرديّ أن يشتعل في كثيرين فيدفعهم إلى الشوارع لتعطيل المُعطّل في البلد أصلاً؛ هذا التحديد نفسه يُناقض الرغبة الحقيقية في التغيير والانقلاب، لكنّه يجب أنْ يكون تذكيراً بغير المنسيّ. كلّ هذا التراكم العنفيّ، المتمثّل في اختفاء الضرورات اليومية على الأقلّ، وارتفاع أسعار الموجود مثلاً، غير متمكّن من إحداث ما يُفترض به أنْ يحدث. فـ"الثورة" لن يصنعها جائع، لأن الجائع سيتقاتل مع جائع آخر، يقول البعض، وهذا يتنافى وجوهر الثورة، فأبناء الطبقات الوسطى لن يثوروا، والأثرياء لن يثوروا، والفقراء في لبنان يتقاتلون فيما بينهم، وينهبون بعضهم البعض، وهذا صحيح، لخوف أصيل فيهم من زعيم أو قبيلة أو طاغية أو مؤسّسة طائفية. وهذا أسوأ المساوئ.
المسافة تضيق بين غرفة وشارع قريب وأمكنة معتمة. الاختناق يزداد. الكتابة متنفسٌّ، لكنّها غير نافعة، وإنْ تذهب إلى فيلمٍ أو سينما، أو إلى أحوال الفن السابع، هنا وهناك. الكتابة حاجة وملاذ، لكنّ المكتوب يفقد قيمته لانكسار كاتبه في خيبة وألمٍ. أقرب صالة تُصبح كأنّها في آخر المعمورة. انتظار فيلمٍ لصديقٍ أو لمخرجٍ يُثير متعةً، يُقضَى عليها سريعاً، فـ"موعد" المُشاهدة سيطول، والواقع اللبناني غير ثابت وغير آمن وغير مُريح.
إنّها الذكرى الأولى لجريمة مرفأ بيروت. يظنّ البعض أنّها ستُحدث شرارة ثورة أو تبديل، كتلك التي "أشعلت" عنبراً و"ارتكبت" جريمة.
إنّها مجرّد ذكرى يا عزيزي، لا أكثر.