لا أظن أن أحداً يعرف ما هو سحر رواية إحسان عبد القدوس "أنف وثلاث عيون"، الذي يدفع مخرجاً في عام 2023 لإعادة إنتاجها سينمائياً، بعد ثلاث محاولات إنتاجية سابقة.
في عام 1968، بعد أربعة أعوام من نشر الرواية، قدّم المخرج محمد علوان أول معالجة درامية للرواية في مسلسل إذاعي من بطولة عمر الشريف وسميرة أحمد ونادية لطفي. وفي 1972، كانت المعالجة الثانية ولكن سينمائية هذه المرة، من إخراج حسين كمال وبطولة محمود ياسين وماجدة وميرفت أمين ونجلاء فتحي، أما الثالثة فكانت تلفزيونية من إخراج نور الدمرداش وبطولة كمال الشناوي ويسرا وليلى علوي وماجدة الخطيب.
بعد أكثر من خمسين عاماً على إنتاج الرواية سينمائياً، بدأ المخرج أمير رمسيس تصوير فيلم جديد عن الرواية نفسها. ويُفهم من الأخبار التي نشرت أنه سيكون معالجة معاصرة. من قرأ الرواية التي صدرت عام 1964، لا يعثر على نص مركّب قابل لقراءات متعددة؛ فهي، كأغلب روايات وقصص إحسان عبد القدوس، نص مباشر، يُسهب فيه الكاتب في الوصف وشرح دوافع الشخوص وسيكولوجياتهم، فلا يترك شخوصه تتنفس، بمعنى أنها لا تُترك لتكوّن حياتها المستقلة عنه في خيال القارئ، فالوصف لا يستثني شيئاً، من ملامح الوجوه الدقيقة انتهاء إلى الأزياء وثنيات الثياب، بل ونوعية الأحذية وارتفاعها وربما لونها، ما يعني أن الشخصيات مقيّدة وتكاد تكون نُسَخاً نهائية غير قابلة للتعديل.
يُضاف إلى ذلك، وهو الأهم، أن النص يفتقر إلى ثيمة مركزية، فهو يتمدد ويتوسع ولا يتطور درامياً بما يتيح له أن يشكّل ذرواته، فلا أزمات وجودية كبرى تواجه أبطال رواياته بشكل عام، وعلى الأخص في "أنف وثلاث عيون"، بل هناك انتقالات يقوم بها المؤلف وليس الشخوص غالباً، وهي ساذجة في عمومها، وعلى توسع لا ضرورة له في السرد. وقد يكون مفيداً هنا أن نعرف أن عدد صفحات الرواية يزيد عن الألف، ولو خضعت للتحرير فقد يصل عدد صفحاتها إلى أقل من 100.
وإذا كان هذا شأن النقد الأدبي، فإنه قد يكون خلاف ذلك في الدراما أو لدى صنّاعها، الذين توفر لهم الرواية مبنى مناسباً، يحفل بالتفاصيل، ما يعفي كاتب السيناريو من عبء ذكرها أو الكد لتوفيرها لإنتاج عمل مأخوذ عنها. وربما يكون السحر هنا، ذلك الذي جعل الرواية تُعالج درامياً أكثر من مرة، إضافة إلى ما يمكن اعتباره جاذبية النموذج النسائي، في الفيلم والرواية، وعلى الأخص تقديم حسين كمال لثلاث من جميلات السينما المصرية في فيلم واحد دفعة واحدة. وهن ماجدة، وهي المنتجة بالمناسبة، وميرفت أمين ونجلاء فتحي، ما يجعل من الفُرجة السينمائية مجالاً للتلصص وحقلاً للافتتان، ليس بالحدث وتطوره، بل بالأجساد التي تقدّم بسخاء في الكشف، فلا تظهر الممثلات في الفيلم إلا بثياب النوم غالباً.
ولا يُعرف بعد كيف يمكن تقديم معالجة معاصرة لموضوع كهذا؟ فالقصة الأساسية تقوم على طبيب ناجح وشهير في القاهرة، تتسابق النساء على التقرب منه، بينما يبدو هو غير معني بالارتباط، فهذه تريده ولكنه لا يريدها، وتلك يريدها لكنها لا تريده ولا تستطيع الارتباط به، وثالثة لا تريده ولا يريدها، بل ترغب بالسخرية منه. وتلك دورة في العلاقات الإنسانية لا تفاجئ درامياً ما لم تُفخخ بالأزمات ذات المسحة الوجودية داخل هذه العلاقات، بما يدفع بأطرافها إلى الخيارات القصوى، وهو ما حاول الكاتب ملامسته من دون أن ينجح. ويعود سبب فشله إلى تقنياته السردية التي تجعل الشخوص أسرى تماماً لأفكاره، لا لتطورها في معزل عنه، وهذه كانت واحدة من أكبر المشكلات التي حالت دون أن يصبح روائياً مهمّاً.
تظل التسلية هي ما يُغري. نماذج النساء اللواتي قُدمن على الشاشة، وهن جميلات، عدا عن الأداء المتواضع لبعضهن، وخصوصاً ماجدة. والمأمول ألا تكون الإثارة هي الهدف أو الدخول في منافسة مع الفيلم الأول المأخوذ عن الرواية، في تسليع المرأة، وإهمال ما حاول أن يقوم به عبد القدوس وفشل، وهو تلك الأزمات المفترضة التي كان من الممكن أن تدفع نساء روايته إلى خيارات قصوى، انتحارية، وبطله إلى حافة العبث الوجودي.