هناك تجارب فنية لا تُنسى، إذ كلّما طال أمد رحيل صانعيها، ازداد غيابها فتنة وتوهّجاً في مُتخيّل الناس ووجدانهم. الأحياء يستعيدون سِيَر هؤلاء، بالاستماع إلى أغانيهم، ومُشاهدة أفلامهم، وقراءة ما يكتبه النقّاد عن أعمالهم من مؤلّفاتٍ ودراسات ومقالات. تذكّر التجارب عبر ندواتٍ ومعارض فوتوغرافية مهمّ جداً أيضاً، إذ تُكرّس أسماؤهم، وتُبعَث صُوَرهم، وتبقى ذكراهم حيّةً.
لكنّ هذا التقليد نادرٌ في العالم العربي، لأنّ ثقافة الاعتراف غير موجودةٍ. لا أتحدّث عن الجانبين الإعلامي والنقدي، الغائبَين طبعاً، والمُمثّلَين في دراسات ومقالات، بل عن استعادة سيرة ذاتية فنية في عمل سينمائيّ، روائي أو وثائقي، فتُصبح حياة النجم/النجمة مُهمّة، ينبغي التعامل معها كموضوع سينمائي قابلٍ للتخييل، خاصّة حين يتعلّق الأمر بمطربةٍ كأم كلثوم (1898 ـ 1975)، ومسارها الفني، وعلاقتها بالغناء والموسيقى والسياسة والمجتمع، منذ ثلاثينيات القرن الـ20.
الرغبة في استعادة حيوات الفنانين والفنانات تبدو مُنعدمة، فبعض المخرجين العرب لم يبلغوا مرتبة النضج الفنّي، الذي يجعلهم يُقلّبون مفاهيمهم البصرية، ويبحثون عن مشروعٍ سينمائي جديد، يستعرض السِير المُهمّة، ويُعيد بناءها وتخييلها وفق فعلٍ بصريّ مُغاير، كـ"لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء" (1978) للمُخرج اللبناني برهان علويّة، الذي قدّم بورتريه سينمائياً واقعياً/مُتخيّلاً للمعماري المصري حسن فتحي. حقّق الفيلم نجاحاً كبيراً، وظلّ إلى اليوم مرجعاً بصرياً مُتفرّداً في فكرته وصنعته، مُنطبعاً في الذاكرة العربيّة، كأحد الأفلام المنزاحة عن مَشاغل الصناعة الوثائقية القائمة. لا لأنّه استعرض فنّاناً مؤثّراً، كصاحب عمارة الفقراء، بل لكشفه شكلاً سينمائياً، يجعل السيرة حداثة بصرية، والنجومية سنداً تخييلياً.
هذا في وقتٍ لم تُحقّق السينما العربيّة أيّ حداثةٍ بصريّة، باعتبار أنّ بعض أفلام تلك المرحلة بدا، لاحقاً، كأنّه يتهجّى مبادئ الحداثة السينمائية، الغارقة بين ثنائية الأصالة والمعاصرة، على مُستوى الشكل الفيلمي.
ذِكْرُ وثائقي برهان علوية متأتٍ من انتمائه إلى هذا الأفق التحديثي في إعادة تشكيل وتخييل سيرة صاحبة فيلم "نشيد الأمل" (1937) لأحمد بدرخان، بوصفها أيقونة تستحقّ تفكيراً وتخييلاً كبيرين. والسينما، بقدر ما تنتهك مكبوت الناس، وتُعرّي أجسادهم، وتكشف خيباتهم ومسرّاتهم، تبقى آلةً تُولّد صُوَراً أيقونية، تنطبع في المُتخيّل الجمعي، وتُكرّس السِيَر في سردياتٍ بصريّة، قابلة لأنْ تغدو نصّاً حكائياً، تستند إليه الصورة السينمائية.
هناك أمور كثيرة تُقال عن أمّ كلثوم، سينمائياً وغنائياً وسياسياً. هذا يجعل سيرتها مُتشابكة، وغير مُسيّجة، ومفتوحة على مكابدات التأويل وفتنته، ومتاهات الواقع وحساسيته. إنّها تجربةٌ إنسانية، يمتزج فيها الذاتي بالجمعي، والفني بالسياسي، وهذا كلّه بشكلٍ مُركّب وأصيل في المجتمع المصري، بتناقضاته وتحوّلاته، منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
سِيَرٌ كهذه، مانعة ومُركّبة ومُتشابكة مع أسئلة الواقع والذاكرة والتاريخ، تُصبح أقوى في التخييل السينمائي، لأنّه يمنحها "خلوداً" لا تستطيع المسارح على شساعتها، ولا الألبومات على شهرتها، أن تُقدّمه لسيرة أمّ كلثوم، مقارنة مع السينما وشعريّتها. فالسينما، حين تلتقط الأجساد والملامح والأحاسيس والألوان والنتوءات، تُخرجها من مسام الواقع، وتزُجّ بها في الأبد.
إنّها عمليةٌ ميتافيزيقية، لا يفهمها إلاّ نجومٌ مصريون كبار، خبروا الشاشة الكبيرة ومُتعها، وأدركوا، في بداية مشوارهم الفني، أنّ الفن السابع وحده الأبقى والأكثر تأثيراً في وجدان المُشاهد العربي. ولا غرابة أن تُطالعنا بواكير ألبومات غنائية عدّة في أفلامٍ سينمائية، وعياً من روّاد الطرب الغنائي العربي بأهميّة هذا الوسيط الشعبي في التأثير في عقول الناس ووجدانهم.
عشرات الأعمال احتفت بسيرة أم كلثوم، كـ"كوكب الشرق" (1990) لمحمّد فاضل، ومسلسل "أمّ كلثوم" (1999) لإنعام محمّد علي. لكنّها كانت احتفاء وتكريماً ينفيان كلّ هاجس تخييلي يتقصّده المُخرج. هذا مطبّ أفلام سِيَر حياتية/ذاتية عربيّة، تكون منطلقاتها احتفائية مادحة، وغرضها إعادة رصد مسار الفنان، فيكون السردُ روايةً تقليدية مُتسلسلة وخالية من التشويق الفني، القائم على الحفر في السيرة، بما يجعل المُخرج يكشف حقائق ويبحث عن جديدٍ يُعوّل عليه جمالياً. والغرض من أفلام السيرة ليس محاكاة السيرة نفسها، بل جعلها قابلة للتخييل، حيث تغدو الصورة مُطابقة للواقع ومُنفصلة عنه في آنٍ واحد.
يُعتبر "وداد" (1936)، للألماني فريتز كرامب، أول فيلم يتناول سيرة أمّ كلثوم. رغم بساطة حكايته وتقليديتها، نظراً إلى السياقٍ التاريخي المُنتج فيه الفيلم، أثار جدلاً فنياً، وترك انطباعاً حسناً في أذهان الناس. فلأول مرة، تجد المُطربة نفسها أمام الكاميرا، وهي تروي تفاصيل عنها، تُعلن معها عن ميلاد فنانة ومُطربة، ستشغل الناس في مصر وخارجها. بهذه الطريقة التلقائية، تتوالى أفلامها: "نشيد الأمل (1937)، و"دنانير" (1940)، و"عايدة"(1942)، و"سلامة" (1945)، و"فاطمة" (1947). إنّها الأفلام الوحيدة في رصيدها السينمائي، لكنّها كافية لرسم ملامحها الفنية، ولتتويجها مُطربة وأيقونة كبيرة في العالم العربي.
لا السينما ولا الصوت وحدهما ساهما في شهرة أمّ كلثوم، بل أيضاً السياقات التاريخية والرومانسية والسياسية التي عرفتها مصر بين ثلاثينيات القرن الـ20 وسبعينياته. مرحلة مُؤسِّسة في تاريخ مصر الحديثة، حيث النكبات والانتصارات تطبع هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلد.
تستحق كوكب الشرق أكثر من فيلمٍ روائي ووثائقي. المعلومات والحكايات، والتفاصيل المُتعلّقة بها في السياسة والنضال، تستحق لوحدها أفلاماً عدّة، بل إنّ وصولها إلى المغرب، وما حدث لها من طرائف، وحرصها على التعرّف إلى الناس، أمرٌ يستحقّ التفكير والنبش في سيرة هذه المرأة العصيّة على المحو والنسيان.