تُقارب أفلامٌ، فائزة بجوائز مختلفة في الدورة الـ43 لـ"المهرجان الدولي للفيلم القصير في كليرمون فيران (فرنسا)" - وقد أقيمت افتراضياً بين 29 يناير/ كانون الثاني و6 فبراير/ شباط 2021 - الفكرة الوجودية القائلة إنّه، رغم الكوارث والحروب، يظلّ الإنسان/ الفرد محور العالم. أحياناً كثيرة، تسحقه الانقلابات الكونية الكبرى، لكنّه يستبسل في استعادة مركزه. عِناده أبقى على وجوده. السينما قادرة على التقاط لحظات الانسحاق العظيمة، كوباء كورونا والهجرات البشرية. بدقائق قليلة، يُمكن لفيلمٍ عنها تكثيف الأكثر إيلاماً وتراجيدية فيها.
جُلّ الأفلام الفائزة تقارب وضعاً بشرياً مأزوماً، يواجه الإنسان فيه أسئلة وجودية مقلقة، يقترح صنّاعها نقلها إلى الشاشة باشتغالاتٍ، تعرف جيداً شروط حِرفتها السينمائية. يُجيدون فنّ تكثيف أزمنة قصصها وتواريخها، ومنها الآنيّ، كفيلم الفرنسي جوليان غوديشو، "حبيسٌ في الخارج" (2020)، أو "إغلاق" بحسب الترجمة الإنكليزية للعنوان (جائزة الجمهور في المسابقة الفرنسية)؛ ومنها الباحث في أزمنة الهجرة ومراراتها، كرحلة الفلسطينيّ، ابن بيت لحم، الناشد وصولاً إلى ألمانيا، في رائعة المخرج البولندي داميان كوكور، "لا يزال اليوم" (العنوان البولندي)، أو "اليوم هو الآن" (2020) كترجمة غير حرفية (جائزة ترشيح الفيلم الأوروبي في المسابقة الدولية). يتشارك معه في الفكرة "نحن لسنا أمواتاً بعد" (2020)، للمخرجة جوانّ راكوتوأريسوا (جائزة أفضل أول فيلم تخييلي في المسابقة الفرنسية)، المقتربة بنصّها من هموم شاب أوكراني، يجد نفسه أمام خيارين: إما البقاء في البلد وأداء الخدمة العسكرية، أو التهرّب منها بالسفر إلى بلد أوربي آخر. بينما يقدّم فيلم التحريك "ذكرى ذكرى" (2020)، للفرنسي باستيان دوبوا (جائزة أفضل فيلم تحريك في المسابقة الفرنسية)، نفسه كمثل على النص السينمائي القصير، المتشابك زمنه مع ماضٍ يلحّ في اللحظة الراهنة على الحضور، وعلى مكاشفة تاريخ استعماري يريد أحد المتورّطين فيه التهرّب منه، ونكران ما فعله الجنود الفرنسيون من فظائع في الجزائر.
مشهد مدينة باريس، المقفرة في زمن كورونا، محزنٌ. أشباح كائنات رثّة تتجوّل، في شوارعها الفارغة، قلِقةً كأنّها تنشد وجوداً لازماً لبشر إلى جوارها. مُشرّدون ومدمنون وعبثيّون اختاروا، أو فرضت عليهم الحياة نمط عيش هامشي. طفيليّو المدن الكبرى نتاجها. من دونهم، لا يستقيم معنى حيّويتها الباهرة. إلى وجودهم الغريب، في زمن يهرب الجميع فيه إلى بيوتهم، يلتفت الوثائقي "إغلاق" (24 دقيقة)، مقترباً منهم في زوايا ومخابئ "سرّية" صنعوها لأنفسهم. ينقل أحاسيس بعضهم، وهم يواجهون فراغاً مفزعاً يهدّد وجودهم، من دون أن يكترث أحدٌ بهم.
ذلك الإحساس بالوحدة والخوف من المكان الفارغ، يشعر به الفلسطيني محمد، عندما يجد نفسه في مكان غريب، يحيطه الصمت. لم يسمع سوى حركة محرّك عبّارة تقترب منه، وهو يقطع عرض النهر. لم يصدّق صاحب العبّارة النهرية البولندي أنّه يرى أمام عينيه كائناً غريباً. يأخذه إلى بيته، ويتكتم على وجوده. بالأسود والأبيض، يُراد بـ"اليوم هو الآن" (25 دقيقة) توافقاً مع مناخٍ معتم، يلفّ عوالم كائنين تلاقيا في ظرف عجيب. الوافد العربي من بعيد يريد بلوغ ألمانيا، وصاحب العبّارة يريد أحداً معه، يكسر بوجوده عزلته ووحدته المؤلمة. في البيت، يتفاهمان بلغتين مختلفتين. التكرار والإشارة يُقرّبان المعاني. الكلمات التي تتناثر منها توحي برغبة الفلسطيني في الرحيل من المكان إلى طرف آخر من الحدود، والمقيم يريد التخلّص من حصاره بانفتاحٍ ما.
في أوكرانيا، شاب ينشد خلاصاً من ورطة وجوده في زمن الحرب. يؤثّث "نحن لسنا أمواتاً بعد" (34 دقيقة) وجوده في مدينة صاخبة ليلاً. يمضي الشاب مع أصدقاء يريدون تمضية سهرة ممتعة. حيرته تنغص عليه متعة المشاركة. تلبية الخدمة العسكرية غير محسومة، كفكرة السفر إلى بلدٍ آخر. الخوف من المقبل يُحيل وجوده إلى عذاب، ويسحبه إلى انعزال.
القصّة المُكرَّرة للجَدّ عن وجوده السلميّ في الجزائر، إبّان فترة استعمار فرنسا لها، تُقلِق حفيده أكثر مما تقنعه بصحّتها. هناك شيء غامض فيها. شيء محذوف لا يُراد له الظهور، فيمنعه من تصديقها. "لا حلّ إلا بإعادة سردها تخيّلاً"، هكذا يقرّر الشاب الفرنسي في "ذكرى ذكرى" (15 دقيقة)، كحلّ يُنهي حيرته. بالرسومات البارعة لخورخي غونزاليس، ينسج عالماً افتراضياً يقارب ذاك الذي عاشه جدّه في الجزائر. يورّطه بأعمالٍ وحشية، وبقتل مواطنين أبرياء. أحداثٌ ووقائع متخيّلة تتوافق مع سلوك جنود مستعمرين، يعاكس بها الرواية التي طالما ردّدها جَدّه، بأنّه اصطاد في ربوعها أرنباً ببندقيته، ومن بين رمال الصحراء التقط عقرباً، يحتفظ به إلى اليوم مُحنّطاً في مكتبه.
مقاربات لأحوال بشر وظروف أفراد يعيشون زمناً مضطرباً، تجد جُلّها ـ في متون وأساليب اشتغال الأفلام القصيرة الفائزة ـ مساحة رحبة للتعبير عنها ببلاغة سينمائية نادرة. الجمالي فيها مُبهر، والمفارقة، كعنصر ملازم للقصير، لا تفارقها. قصصها تحاكي واقعاً، منقولاً إلى الشاشة بإيجاز بيانيّ يشبه السحر، ويفصح عن بعض معاني "الزمن الفيلمي" العجيب.