أفلام الثورات.... الحماسة حين تغلب الحقيقة

28 يناير 2021
كان لتونس النصيب الأكبر من الأفلام الوثائقية (Getty)
+ الخط -

على امتداد 10 أعوام، بعد تفجّر ثورات الربيع العربي، تدفّقت الأفلام بغزارة، لمواكبة الأحداث الساخنة في مختلف البلدان. غالبيتها وثائقية، وقلّة قليلة منها روائية. نظراً إلى الظروف الصعبة آنذاك، تعذّر إنتاج أفلامٍ روائية وتصويرها وتوزيعها، مقابل سهولة نسبية في تنفيذ الوثائقي، فكانت الغلبة له.

بالتأكيد، تفاوتت مستويات الأفلام المُنجزة في السنوات الماضية، حتّى في البلد نفسه. التفاوت لم يكن عيباً بحدّ ذاته، بل طبيعياً ومفهوماً ومقبولاً، بعض الشيء. لكنّ وقوع أغلب الأفلام في نقاط ضعف مُشتركة لم يكن مقبولاً. عادةً، تصعب مُواكبة الأحداث الكبرى في حينها بشكلٍ عميق فنياً. يُفضَّل الانتظار حتّى تمرّ الأحداث، وتهدأ وتيرتها، وتنجلي الصورة، وتتوضّح بعض الحقائق، فيتمّ التعامل معها على نحو يتيح رصدها من بعيد، بشكل لائق فنياً، وبمعالجة تتّسم بالدقّة والإنصاف، قدر الإمكان.

مع اندلاع الثورات، كان طبيعياً مشاركة المبدعين فيها، لكونهم الأكثر ثورية. المقصود بـ"الثورية"، تمرّد الفنان على ذاته، وطريقة تفكيره، وإيجاد طرق تعبير مُغايرة، تواكب وتتفاعل وتتشابك مع الحالة السائدة، خالقةً أشكالاً تعبيرية جديدة. لكنّ غالبية المبدعين وقعت في فخّ السرعة والاندفاع والتشوّش. تلك العيوب سمات بارزة لدى المبدعين السينمائيين أيضاً، بالإضافة إلى انتفاء التماسك البنائي والتناغم والوحدة الموضوعية، والافتقار إلى رؤية أو خيط واضح تتركّز حوله أحداث وحبكات وسرد للأفلام، فضلاً عن المستوى الفني، الخالي من الإبداع والتجديد والابتكار؛ إذْ تصوّر كثيرون أنّه بمجرّد توفّر مادة نادرة أو صُوَر غير مُستهلكة، يُمكن صُنع أفلامٍ متميزة، بصرف النظر عن أي شيء آخر.

تصوّر كثيرون أنّه بمجرّد توفّر مادة نادرة أو صُوَر غير مُستهلكة، يُمكن صُنع أفلامٍ متميزة

لذا، جاءت أغلب الأعمال، المواكبة لأحداثٍ مُفاجئة وغير تقليدية، ذات أساليب ومُفردات جامدة وتقليدية جداً. كان القسم الأكبر مما سُمِّيَ أو أُدرج تحت لافتة "أفلام الربيع العربي" عبارة عن مجموعة لقطات أو قصص أو رؤى مُتكرّرة، بل ومُستهلكة أحياناً كثيرة. للأسف، قلة فحسب من أفلام الربيع العربي اتّسمت بالمصداقية. فالأكثرية غلبتها الحماسة والسرعة وروح الهواة، وعدم الاهتمام بالجوانب التقنية والرؤية البصرية. كما أنّها رصدت غالباً المواضيع نفسها: اضطهاد المواطنين من حكّامهم، وإساءة استخدام السلطة، والقمع والكبت وغيرها، ما دفع الناس إلى التظاهر السلمي أولاً، ثم انفجار كلّ شيء، بعد محاولات القمع، إلى أن سقطت السلطات تباعاً.

لكنّ الأفلام التي اختلط فيها الوعي الذاتي بالهمّ الشخصي، والاجتماعي والسياسي في قلبها، كانت الأكثر قبولاً وجِدّة وصدقية وبقاء في الذاكرة. وربما الأكثر فنية وحِرفية، ومحاولةً للتجديد، شكلاً ومضموناً. من الأعمال المُتميّزة في المعالجة والطرح: "18 يوماً" (2011) الذي أنجزه 10 مخرجين مصريين، و8 مؤلّفين، وتكوّن من 10 أفلام قصيرة منفصلة. و"تحرير 2011: الطيّب والشرس والسياسي" (2011)، 3 أفلام قصيرة في واحد، للمصريين تامر عزّت وأيتن أمين وعمرو سلامة، عُرض لأسابيع في الصالات المصرية، ولاحقاً على قنوات خاصة. هناك الروائي الأول للمصري تامر السعيد، "آخر أيام المدينة" (2016)، الممنوع عرضه في مصر إلى اليوم، وروائيّ مواطنه محمد دياب، "اشتباك" (2016).

عربياً، هناك "نورمال" (2011) للجزائري مرزاق علواش، و"ما نموتش" (2012) لنوري بوزيد، و"على حلة عيني" (2015)، لليلى بوزيد، و"على كفّ عفريت" (2017) لكوثر بن هنية (المخرجون الثلاثة تونسيون). وثائقياً، كان لمصر وتونس النصيب الأكبر، قبل أن تتصدّر الوثائقيات السورية المشهد العربي، وتتفوّق فيه.

من مصر، هناك "التحرير" (2013) لجيهان نجيم، و"مولود في 25 يناير" (2012) لأحمد رشوان، و"أمل" (2017) لمحمد صيام. ومن تونس، "لا خوف بعد اليوم" (2011) لمراد بن الشيخ، و"يا من عاش" (2012) للتونسية هند بو جمعة.

الأفلام التي اختلط فيها الوعي الذاتي بالهمّ الشخصي، والاجتماعي والسياسي في قلبها، كانت الأكثر قبولاً وجِدّة وصدقية وبقاء في الذاكرة

الأفلام المقبلة من سورية مُغايرة لتلك المصرية والتونسية، نظراً إلى طبيعة الأحداث، إذْ ساد القمع والعنف والقتل، وما تلا ذلك من عنف مضاد، ثم تدخل قوى دولية. لذا، باتت الأفلام المتدفّقة من هناك، ومعظمها وثائقيّ، مع بعض التجاوز في المصطلح، بخلاف كونها ناقلة لأكثر من صورة ووجهة نظر، دافعة إلى الإرباك والحيرة أيضاً، إذْ انقلب الهمّ والتوجّه من رصد بدايات الثورة وتفاعل الناس معها وإظهار بطش نظام، إلى رصد حمل السلاح والقتال شبه الدولي، ودخول أحد أجمل بلدان المنطقة إلى حربٍ شبه أهلية، وتشريد أهلها.

يظهر هذا في "ماء الفضة" (2014) لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، و"العودة إلى حمص" (2013) و"عن الآباء والأبناء" (2017) لطلال ديركي، و"آخر الرجال في حلب" (2017) لفراس فياض، و"إلى سما" (2019) لوعد الخطيب. روائياً، لم يبرز في سورية إلّا "سلّم إلى دمشق" (2013) لمحمد ملص، و"يوم أضعت ظلّي" (2018) لسؤدد كعدان. نظراً إلى ضبابية الوضع في سورية وتعقّده، لم تُبيِّن الأفلام حقيقة الأمور بحيادية، ولم تُسبَر أعماق الانقسام السياسي والديني والمجتمعي. عوضاً عن ذلك، وبسبب تواتر الأحداث المتسارعة والتحوّلات واستحالة العيش وسط أنقاض بلد، بالإضافة إلى الرغبة المُلحّة في الفرار منه، انتقلت المعالجة إلى وثائقيات ترصد مُعاناة الداخل ودماره، ومآسي اللاجئين المُشرّدين في بقاع الأرض، ثم تدفّقت الأفلام حول تللك الظاهرة، بكل مُعاناتها.

نظراً إلى ضبابية الوضع في سورية وتعقّده، لم تُبيِّن الأفلام حقيقة الأمور بحيادية، ولم تُسبَر أعماق الانقسام السياسي والديني والمجتمعي

رغم ذلك، لفتت الأفلام الأنظار إلى أحوال اللاجئين السوريين وأهوال عيشهم، وأحوال وأهوال غيرهم في العالم، ما جعل أفلام اللجوء السورية فقرة خاصة وثابتة في مهرجانات دولية، وهذا يعني نسيان الثورة وبواعثها ودوافعها، تقريباً. أفلام كثيرة عن ثورات الربيع العربي عُرضت في مهرجانات كبيرة، كما في برلين وكانّ وفينيسيا وتورنتو وغيرها، بلهفة بالغة. حصل بعضها على جوائز يستحقّها أحياناً، ونال تقدير الجمهور في بقاعٍ بعيدة، مُتفاوتة الاهتمام، وذلك بعد عقود من معاناة الأفلام العربية مع المهرجانات ودور العرض والجمهور الغربي.

طبعاً، كانت الرغبة في معرفة الآخر، ومواكبة الأحداث والتطوّرات، وما يجري في منطقة الشرق الأوسط، الدافع الرئيسي وراء تلك الحفاوة وذاك الاهتمام، ولم يُوضع المعيار الفني والجودة في الاعتبار كثيراً. المُثير للانتباه أنّ الحرية المُتاحة للسينمائيين، في أعقاب تلك الثورات لم تُستَغلّ كما ينبغي، إذْ لم تتجاوز حدود الحماسة المُفرطة في ثوريّتها وتطلّعاتها، والجرأة على المحظور، وتنفيس غضب ضد أنظمة قمعية، وزيادة جرعة النقد لتلك الأنظمة وأجهزتها وفسادها وإجرامها، والانتشاء بخرق التابوهات المُكرَّسة.

اكتفت الأفلام برصد ما رُصِدَ من قبل عن بواعث تلك الثورات. لذا، باتت غالبية الأعمال مُجرّد أرشيف، وبمثابة ذكرى ولحظات حنين لما مضى. لكنْ، حتّى اللحظة، لم تُروَ بعد قصّة الصعود الهائل لتلك الثورات، وسقوطها المُدوي. كذلك لم يستطع مبدعو الأعمال استشراف المستقبل، والتطلّع بعين أخرى مُغايرة لما يُخبئه المستقبل من رؤى تشاؤمية، أو أحداث عبثية، أو أمور مُناقضة لما كان يجري. أو مثلاً تأمّل دروس التاريخ، ومُضاهاتها بالواقع، واستيعاب أنّ الثورات يسهل جداً أنْ تفشل، وأنّ ما حدث لم يكن سوى خطوة في طريقٍ، طويلة وصعبة وشاقّة، إلى الحرية والديمقراطية.

الحرية المُتاحة للسينمائيين، في أعقاب تلك الثورات، لم تُستَغلّ كما ينبغي، إذْ لم تتجاوز حدود الحماسة المُفرطة في ثوريّتها وتطلّعاتها

هذا كلّه يُمكن تفهّمه في سياق حداثة العهد بالحرية وممارستها، فضلاً عن استيعاب مفهومها، والوقوف على حدودها ومتطلّباتها وتبعاتها. بعد عقد على اندلاع الثورات تدريجياً، تقلّصت مساحة الحرية، المُكتَسبة سابقاً، هنا وهناك، واختفت سريعاً، تقريباً، إلى درجة أنّ مجرّد الإتيان على ذكر الثورة، في بعض البلدان، في السنوات الأخيرة، أصبح يُمثّل خطراً.

صار طرح ومناقشة وتناول الثورة وتبعاتها غير مرغوب فيه، إعلامياً وفنياً، ما جعل الأفلام المصنوعة سابقاً، بصرف النظر عن مستواها، محض ذكرى للثورة، أو لهامشٍ مُكتَسب للحرية، أو مُتّسع في أعقابها. للأسف، باتت هذه الأفلام، وإمكانية صُنع في ضوء المُتاح الآن، أمراً يُشبه الحلم، وصدى زمنٍ بعيد، رغم راهنيته. أمرٌ يصعب جداً تكراره، في المستقبل القريب، على أقلّ تقدير.

المساهمون