تناسي التجربة: التصوير مؤجل منذ 10 أعوام

28 يناير 2021
شيطن النظام المصري بعض المخرجين ومنع أفلامهم (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

من الصعب على صنّاع السينما في العالم العربي أن ينجزوا أفلامهم من منطلق الحرية المطلقة، خاصة إن كانت الأعمال تتعرض إلى الأنظمة السياسية أو طريقة الحكم. هناك فقط هامش لا يكاد يُرى، يتعامل فيه المخرج وفقاً لسياقات ظرفية وشروط المرحلة. علينا، في هذا الخصوص، معاينة ما تحقّق في 10 أعوامٍ من الانتفاضات العربية، أو ما يعرف بـ"الربيع العربي"، والحرية مطلبها الأساسي. هذا المفهوم الذي تتفرّع منه قوائم أخرى، تخصّ كلّ طوابق المجتمع، ليقودنا هذا المصطلح الهلامي إلى طرح تساؤلات أخرى تخصّ السينما، التي تتطرّق جمالياً للمنعرجات الكبرى للدول، حتى تصبح وثيقة بصرية تطّلع عليها الأجيال.

من أهم هذه الأسئلة الملحّة: هل فُكّتْ القيود التي كبّلت السينما العربية، وجعلتها تتجوّل في نطاقٍ محدود على الأقل في بلدان الحراك؟ هل تمّ تحرير "الشرطي الرقيب"، الذي يسكن ذهن كلّ مخرج عربي، يملي عليه تصرّفاته وأفعاله، قبل أن يدخل أيّ عمل؟ أمّا السؤال المحوري، المطروح الآن بعد مرور 10 أعوام على انطلاق الثورات، فهو: هل تمّ إنجاز أفلامٍ تعكس تلك الانتفاضات الحاصلة في الأعوام الماضية، بوصفها أهم المنعطفات في التاريخ العربي الحديث؟ أحداث كهذه يجب نقلها سينمائياً، حتى يضمن لوهجها البقاء.

ثورات بلا أفلام... أفلام بلا ثورات

لفهم معضلة السينما العربية في الأعوام الـ10 الماضية، لا بُدّ من استدعاء التجربة الجزائرية، التي مرّت في مرحلة دموية، أطلق عليها مصطلح "العشرية السوداء" (1992 ـ 2002).

حدثٌ بارز، ترك ندوبه الغائرة في قلب كلّ أسرة، وتناولته السينما الجزائرية بعشرات الأفلام، ما جعلها تكتسب، في التصنيف، المرتبة الثانية بعد الأفلام الثورية من ناحية العدد. لكنّ المعالجات المقدّمة سطحية، لم تلامس الجوهر، ولم تذهب إلى أصل المشكلة لتحقيقها سينمائياً، بل اكتفت باللعب على الهامش ومآلاته، والعزف على أحداث العاطفة، للانقلاب على أصل المشكلة وتجاوزاتها وتناسيها، خاصة معالجة الجوانب السياسية التي أدّت إليها، أو التطرّق إلى عوالم المكاتب التي تصدر منها القرارات المصيرية المتسبّبة في سيل كلّ تلك الدماء.

هذا حدث سابقاً، في انتفاضة الجزائريين في أكتوبر/ تشرين الأول 1988. لكنْ، تمّ تناسي هذه المرحلة كلّياً، والتعتيم عليها إعلامياً وسينمائياً، كأنّها لم تحدث، كي لا تكون شرارة توقد روح الثورة في الفرد، رغم سقوط نحو 500 قتيلٍ فيها، بعد تعرّض الجيش للمتظاهرين السلميين، أصحاب الصدور العارية.

تجربة التناسي في الجزائر وجدت طريقها إلى البلدان العربية، التي احتضنت الحراك في الأعوام الماضية. حتّى إنّ المواطن العربي، الذي يريد أن يرى ثورته بصرياً، لم يقف على فيلمٍ يُشخّص له المرحلة وفقاً للشروط الجمالية والدرامية والموضوعية، وحتى الاستعراضية، سواءً في التجربة السينمائية في تونس، التي انطلقت منها شرارة الثورات العربية، رغم ما أنتجت من أفلامٍ توثّق تلك المرحلة، أو في مصر، التي لحقتها شرارة الحراك. لكنّ هذا لم ينعكس في صناعتها السينمائية، رغم أنّ "الثورة" موضوعٌ دسم يمكن أنْ يدير عجلة الإنتاج، ويجعلها تتقدّم أكثر بحكم أنّ هذا البلد يملك صناعة تحتاج دائماً إلى أفكار ومواضيع، كزخم الثورة. أما باقي الدول الأخرى، كاليمن، فلا يمكن التطرّق لها لغياب التقاليد السينمائية، وكذلك السودان تقريباً.

الجزائر، التي عرفت تجربة حراك "22 فبراير" قبل عامين ، لم تستطع  إنتاج أعمال سينمائية تحاكيه، وتعكس ما حدث فيه

الجزائر، التي عرفت تجربة حراك "22 فبراير" قبل عامين (بعيداً عن مظاهرات "أكتوبر 1988")، لم تستطع هي الأخرى إنتاج أعمال سينمائية تحاكيه، وتعكس ما حدث فيه. هناك فقط بعض الأفلام الوثائقية الفرنسية، التي تطرّقت إليه من منظورها الخاص، ويخدم أجندتها الضيّقة ومصالحها المعروفة. لذا، ثار عليها الجزائريون ورفضوها بشكل مطلق، واعتبروها أفلاماً مضادة لثورتهم، كـ"الجزائر حبيبتي".

استغلّت هذه الجهات الفراغ السينمائي في الساحة الجزائرية، فملأتها بتجاربها التي تحاول فيها شيطنة الحراك، بمعالجة جانب على حساب آخر، وبطريقة وضع السم في العسل.

بطريقة عكسية

قدّمت التجربة السينمائية التونسية أفلاماً عدّة، تناولت "ثورة الياسمين" كحدثٍ أساسي أو هامشي. هناك أفلامٌ أخرى تناولت إفرازات الثورة وتبعاتها، كالروائي الطويل "ولدي" (2018) لمحمد بن عطية، الذي عالج تداعيات الثورة على بعض الشباب التونسيين، الذين زرعت فيهم أفكارٌ ظلامية متطرّفة، جعلتهم ينخرطون في صفوف التنظيمات الإرهابية في الدول التي كانت تشهد اضطرابات كبيرة، كسورية والعراق وليبيا.

هذا ما ذهب إليه أيضاً الروائي القصير، "إخوان"، لمريم جعبر، الذي أنتج في العام نفسه، وتناول تقريباً التداعيات نفسها، لكنْ بطريقة عكسية، إذْ سلّط الضوء على مصير التوانسة العائدين من مواقع القتال، وتوبتهم وتحرّرهم من التطرّف الذين دخلوه بسبب تلك الخطب الحماسية، والفهم الخاطئ للنضال.

كما أنّ هناك أفلاماً أخرى تطرح أسئلة حول تونس ما بعد الثورة، كـ"بيك نعيش" (2019) لمهدي برصاوي، وغيرها.

للسينما المصرية، هي الأخرى، تجربة محدودة جداً في إنتاج الأفلام التي تناولت "ثورة 25 يناير" (2011)، كالفيلم الجماعي المستقلّ "18 يوم" (2011)، المُشارك في مهرجان "كانّ"، وأُثيرت حوله نقاشاتٍ، فبعض المشاركين فيه لمّعوا سابقاً نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك؛ و"بعد الموقعة" (2012) ليسري نصر الله.

بعد ذلك، توقفت الأفلام التي تتناول "ثورة 25 يناير"، بعد قدوم النظام الجديد عام 2013، ما عدا "اشتباك" (2016) لمحمد دياب، المُشارك في قسم "نظرة ما" في "كانّ" أيضاً. لكنّ الإعلام الحكومي شيطنه، كما شيطن مخرجه. سينما مضادة يُحيل نقص الأفلام المنتجة حول "الحراك العربي"، وضحالة الموجود، إلى منطلق أساسي ومهمّ: المخرج العربي لا يملك ناصية السينما، ولا يتحكّم ولو في ترسٍ واحد من آلتها الصناعية الكبيرة. لذا، يكون المخرج تابعاً، بشكل كلّي أو جزئي، إلى الجهة المنتجة، أو الطرف الذي يملك المال، وفي الوقت نفسه يملك الأجندة التي يريدها عبر الفيلم الذي ينوي دعمه.

هكذا، ارتسم في ذهن كاتب السيناريو/ المخرج الخطوط التي يرغب فيها فلان ويرفضها علان، لإرضاء الجهة الداعمة، التي ستضمن للعمل أْن يرى النور. هناك دائماً، ومهما بلغت تلك الثورات من إنجازات ـ ظاهرياً على الأقل ـ خطوط حمراء لا يمكن أنْ يتجاوزها المخرج، لأنّ العملية السينمائية متشابكة مع الأنظمة السياسية الظاهرة والعميقة، وتستغلّها دائماً لتمرير رسائل وتفاصيل، لكنها تنسى دائماً أنّ السينما وسيلة جمالية وفنية، لها أسس معينة لتحقيق شرطها السينمائي. ولا يمكن أنْ تُحقّق هذا في ظلّ اعتمادها على الخطابية السياسية والمباشرة في التطرّق إلى القضايا، حتّى إنّ أفلاماً تناولت الثورة، كانت طريقة معالجتها فجّة، فأدّت وظيفة عكسية، وكانت بمثابة "سينما مضادة".

المساهمون