أغاني الفيلم الهندي: تكثيف بصري يكسّر حدة السرد

14 اغسطس 2021
من فيلم ABCD: Any Body Can Dance (تويتر)
+ الخط -

هناك اعتقاد بأنْ لا وجود لفيلمٍ في تاريخ السينما الهندية من دون أغنية، تُجمّل أفقه البصريّ، وتنحت مساراته التخييلية. من مُنطلقها الفنيّ، تشتبك الأغنية، فعلياً، بالصورة السينمائية. أكثر من ذلك، تُؤثّر إيجابياً في بنية السرد وحكي النصّ، بطريقة لا يُدركها المُشاهد.

مسار تطوّر الأغنية في الفيلم الهندي يستحق دراسات مُطوّلة، تتناول مختلف التحوّلات التقنية والفنيّة والجماليّة والفكرية، التي طالت متونها في قرنٍ من الصناعة السينمائية. لكنْ هناك سؤالان يُطرحان: ما علاقة الـ"سينيفيلي" العربي بالسينما الهندية؟ أليست لهذه الأخيرة صحافتها وكُتّابها ونقّادها؟ الأمر أعمق من ذلك، لأنّ الناقد يتعامل مع الفيلم بوصفه عملاً فنيّاً، بعيداً عن حدود جغرافية وسياجات تتعلّق بهوية باتت متحوّلة. الإنصات إلى التراث الفني للآخر يُعدّ مدخلاً حقيقياً لفهم ناجع للهوية. فمن بين تحوّلات الأغنية أنّها أضحت مُركّبة، وتمنحُ هويتها وجماليّاتها من التراث الهندي وتاريخه، ومن ثقافات أخرى عالمية. هذا لعب دوراً كبيراً في تجديد مُنطلقاتها، وأثّر تلقائياً في خصوصيّتها في المُنجز السينمائيّ.

لم تعُد الأغنية على هامش الصورة السينمائية، لأنّها باتت ذات مكانة مركزية ومُستقلّة في صناعتها، وتمتلك وعياً فكرياً، وتحصي عائدات تتجاوز أحياناً مداخيل الفيلم. على هذا الأساس، يُخصّص المُخرج الهندي وقتاً طويلاً لكتابة أغانٍ وابتكار رقصات تتماشى مع الإمكانيات الجمالية للفيلم. هذا يحصل بوعي مُكثّف في أفلامٍ هندية جديدة، بحكم تفاقم الاستوديوهات وشركات الإنتاج، فضلاً عن ظهور موسيقيين ومصمّمين ومغنّين، درسوا الموسيقى والرقص في الخارج، ولهم إمكانات هائلة في التعامل مع صناعة الأغنية و"فيديو كليباتها" في السينما، فظهرت أسماء مُتخصّصة في فنّ الـ"كليب"، بعيداً عن سلطة المُخرج السينمائي، لأنّها تُصنع بشكل مُستقل، ثم يتمّ توليفها في الفيلم. ورغم صعوبة الأمر، يزداد هذا نجاحاً، بحيث إنّ المُؤلّف الموسيقي يفرض على صنّاع الفيلم قراءة العمل كاملاً، كي يستطيع فهم تدرّج الصُوَر السينمائية وسياقاتها الفنيّة، ما يجعله قادراً على فهم المشهد واللون الغنائي الذي يُناسبه، وعلى تجديد صُوره وصناعة جماليّاته. عندها، يتدخّل مخرج الـ"فيديو كليب" لتركيب الأغنية ومزجها مع الرقصات.

عملية صعبة، تتطلّب وقتاً طويلاً ليستوعبها الممثل ويتقنها، إذْ يعتقد عشّاق السينما الهندية أنّ الممثلين يُؤدّون أغانيهم، وهذا خطأ. نجاح الفيلم الهندي جعله يُصبح مُختبراً للتجريب الفنيّ، فتتلاقى التخصّصات والفنون فيما بينها، لتُشكّل وحدة عضويّة بصريّة، ويخضع الممثل لتدريب طويل قبل إنجاز الرقصات، التي تُمنح دائماً لأحد كبار الراقصين في الهند. وبقدر ما جدّدت أسماءٌ الفيلمَ الهندي، من حيث مواضيعه وصُوره وقضاياه، أدّى مخرجون دوراً بارزاً في نقل الـ"فيديو كليب" في الفيلم إلى مرحلة أخرى مُتقدّمة، إذْ لم يعُد محتاجاً إلى جودة الفيلم السينمائي ليصنع جماليّاته، لأنّه بات ينتجُ خطاباً بصرياً مُستقّلاً، تتداخل فيه الموسيقى بالسينما، وينتجان معاً مادّة بصريّة أكثر تركيباً ومعاصرة.

يستند الـ"فيديو كليب" الهندي على مختلف الفنون المعاصرة، من موسيقى ورقص وأداء مسرحيّ، فيعثر المُشاهد في أفلامٍ هندية جديدة، كـChance Pe Dance لكين غوش (2010) وABCD: Any Body Can Dance لريمو دسوزا (2013)، على رقصات أجنبية بامتياز. الهندي حاضرٌ كحكاية ونصّ وأداء وإكسسوار، أما التأثير الغربي فيكاد يكتسح الأنماط الموسيقيّة ورقصاتها. لكنّ المُثير للدهشة في هذه الأفلام أنّ الـ"فيديو كليب" يحضر بوصفه امتداداً عميقاً للصورة السينمائية، ويتشابك معها إلى درجة يصعب فصل أحدهما عن الآخر، لأنّ الـ"كليب" أصبح صورة سينمائية مُؤطّرة، تُلخّص صُور الفيلم، وتتدخّل في تفكيك المَشاهد السينمائية إلى ومضات بصريّة.

التكثيف عنصر مهمّ في الـ"فيديو كليب" السينمائي. يُجدّد الصورة، ويمنحها آفاقاً تخييلية جديدة. على هذا الأساس، أصبح للأغنية دور فكري في احتكاكها مع الصورة، إذْ يعثر المُشاهد على وظيفتها الفكرية لا الجماليّة فقط، على مستوى التأثير في السرد وبنية الحكاية. كلّ أغنية تُنتج صُوراً بلاغية، وتروي قصّة مُعيّنة، مُستلّة من الحكاية الأصل، ما يخلق تواشجاً جمالياً مع البنية السردية للفيلم، لأنّها تُحاكي مضمون الصورة. انطلاقاً من الغناء، يُطوِّع المُؤلّف الصورة، جاعلاً منها صوتاً. لكنْ، من الأسبق: الموسيقيّ أو السينمائيّ؟ سؤال شائك، يحفر دائماً في خصوصية النصّ، لأنّ التأليف الموسيقي سابق على كتابة الصُور. هذا لا يمنع المؤلّف من محاكاة الصورة، خاصّة أنّ طبيعتها سينمائية، لا ترتبط بالـ"فيديو كليب". فرغم غلبة ملامح هذا الأخير عليها، تظلّ سينمائية، وتختزن سينمائياً رموزاً ودلالات.

المساهمون