أجساد "إنستغرام": عن تصالح النساء مع ذواتهنّ

03 يوليو 2022
يخضع وجود المرأة في الحيز العام إلى الكثير من القيود (Getty)
+ الخط -

"في حياتي لم أنزل إلى البحر، حتّى في الشواطئ المخصصة للنساء. خائفة من جسدي. أنا أفكر. لا أعرف". هذه الجملة هي لامرأة في العشرينات من عمرها، عبّرت من خلالها عن شعورها الدائم بالخجل من جسدها. تقول: "أحمل جسدي على أكتافي". ولكن هل يحمل الجسد صاحبه أم العكس؟ في هذه الحالة، هي من تحمله، وتتحمّله بكل "تعرّجاته وأشيائه المتدليّة". تتأبّط به خجلاً، وعندما تضطرّ إلى الخروج من بيتها تحاول حجبه أو تحسينه بما تستطيع إليه سبيلاً.

صار إلغاء المشاريع غير الطارئة أمراً روتينياً، إذ تكاد تنعدم قدرتها على الإفلات من الشعور بثقله وتمدّده. أمّا الخروج به إلى الشمس، إلى البحر، وأخذه في رحلة للاختلاط بأجساد أخرى فهي فكرة مستحيلة. كانت مستحيلة، على الأرجح. في هذا الحديث القصير، تمكّنت الشابة من التعبير عن مسارات وقصص نسائية كثيرة. التقت في سردها الشخصي مع نساء كثيرات يعشن فجوات مشابهة، إذ تتلاقى التجارب النسائية في كثير من المحطات، بعد أن حاصرتها دوائر مجتمعية مركّبة ومعقدة ومتشابهة، تتخفف في بعض البلدان، وتشتدّ في أخرى، تختلف في درجاتها بين طبقة اجتماعية وأخرى أو مع اختلاف الثقافات، ولكنها تبقى متقاربة في أشكال عنفها.

تناولت دراسات كثيرة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً "إنستغرام"، على نظرة الفرد إلى نفسه وجسده ورضاه عن حياته عامة. ولكنها ركّزت أيضاً في أثرها على النساء خاصة، نظراً لتعرضهنّ الدائم إلى أجساد لا تُشبه الواقع (كالعادة)، ما يزيد من حدّة الضغط الاجتماعي والشخصي واللارضا عن الذات. تتأثّر النساء أكثر، نظراً إلى إخضاع أجسادهنّ على مدى عقود إلى حالة من التشييء والتنميط بما بتناسب ورغبات الذكر. دردشنا مع مجموعة من النساء اللواتي لا يتعايشن مع صور ورديّة لأجسادهنّ، وكان ملفتاً أن كثيرات منهنّ يتحدّثن عن تجربة لطيفة مع وسائل التواصل الاجتماعي. لم يكن البحث عن نساء يعشن مع فجوة فاصلة بينهنّ وبين أجسادهنً بالأمر الصعب. كنّ كثيرات.

مع اقتراب الصيف يشتدّ الضغط على كثيرات. نساء يُحاولن بأقصى جهدهنّ الوصول إلى جسد مثالي، وهذا نقاش لا يعني عدداً من النساء اللواتي نجحنَ في تجاوز صراعٍ قد يبدو حتميّاً. هذا الشعور الدائم باللارضا لا ينبع في العمق من نظرة ذاتية مجرّدة، بل هي مراكمةُ لموروثات عائلية واجتماعية وثقافية، ولأسباب اقتصادية وسياسية خلقت جسداً نسائياً "مثالياً" غير قابل للتحقّق. امرأة غير موجودة تتعرّض لها النساء، وتُفرض عليهنّ منذ عقود. امرأة خالية من الشوائب هي وحدها المرأة "المرغوبة – المقبولة" (بمقياس ذكوريّ بحت، تحوّل مع الوقت وساد ليصير قناعة نسائية أيضاً).

جاءت وسائل التواصل الاجتماعي، بكل قدرتها على التحويل السريع وتأمين "تحسينات" افتراضية. صارت مساهمة إضافية في ترسيخ وتعزيز تلك الصورة "المثالية" لجسد المرأة، والترويج لها كجزء من المُسلّمات. دخول هذه اللعبة ساهم في فرد مساحات إضافية لحالات اللارضا عن الذات. طبيعي. كائن يتجوّل في "إنستغرام"، وجسد آخر يختلط اجتماعياً على أرض الواقع. هذا التعرّض الدائم لأفراد لا يُشبهون الحقيقة خلق عالماً خياليّاً يستحيل معه الشعور بتحقق اجتماعي إلاّ عبر انغماس في الافتراضي وفي رفض الواقع وكرهه.

درجت في الفترة الأخيرة منشورات هي عبارة عن محاولات لمواجهة وإظهار لا واقعيّة ما نتعرّض له كنساء عبر وسائل التواصل الاجتماعي. في الوقت نفسه، توسّع حضور نساء يُركّزن نشاطهنّ على مساعدة أنفسهنّ، وأخريات على تقبّل أجسادهنّ بحقيقتها. هذه الحاجة إلى التحقّق الاجتماعي التي تعمل على أساسها الخوارزميات ساعدت في التعرّض إلى محتوى مشابه تماماً كما يحصل في الحالات المعاكسة.

تحكي لنا فاطمة (33 سنة) عن علاقتها بجسدها ومساهمة تطبيق إنستغرام في تحوّل تلك النظرة من السلبية التامة إلى بعض من الإيجابية. تقول فاطمة لـ "العربي الجديد": "مررت في مراحل عدة. كانت رحلة طويلة وصعبة. خلال مرحلة هوسي بالحصول على نظام غذائي يُساعدني في التخلّص من وزني (لا تُعاني من فاطمة من الوزن الزائد، حسب كلام أخصائي التغذية الذين قصدتهم مراراً). في هذه المرحلة، تركّز محتوى إنستغرام على هذا الموضوع. تظهر الفيديوهات والمنشورات من حيث لا أدري، وكلّها تعرض عليّ أنظمة غذائية جديدة وتجارب نسائية ناجحة، ثمّ تحولت الأمور في رأسي، وبدأت علاقة مختلفة مع جسدي، فصرت مهتمة بالرياضة. انتقلت منشورات إنستغرام معي، وصار رياضياً بدوره".

تضيف: "بدأت أخيراً مرحلة جديدة، معها بدأت بتقبّل جسدي. لم أعد الشخص نفسه الذي يستجدي نظرات الآخرين. حصل هذا في الوقت نفسه الذي تابعت فيه بعض المؤثرات اللواتي يُشجّعنَ ويعرضنَ أجساداً نسائية حقيقية. انفجر إنستغرامي، وصرت يوميّاً أتعثّر بفيديوهات لأجساد مشابهة لما أراه يوميّاً. اعتادت عيني. رأيت نساءً أتشارك معهنّ المصائب السابقة نفسها، وها هنّ لا يخجلن ويحصلنَ على مساحاتهنّ الافتراضية. شعرتُ في لحظة أن جسدي طبيعي وعادي".

يخضع وجود المرأة في الحيز العام إلى الكثير من القيود. لا جديد في الجملة السابقة. لطالما شعرت النساء بلا شرعيّة حضورهنّ. لهذا جرت على الدوام محاولات تهذيبه. إمّا أن يلتزم بحدود معينة أو يتمّ إقصاؤه. لهذا طوّرت الكثير من النساء، على مرّ التاريخ، آليّات خاصة لجعل أجسادهنّ لا مرئية في الحيز العام. لا نتكلّم هنا عن كلّ النساء، ولكن محاولات بعضهنّ الحضور غالباً ما عرّضهن لمضايقات، قد يبدأ من الاعتداء اللفظي، ويمتدّ إلى التحرّش، وصولاً إلى القتل. آليات تدجين عبر نظام محاسبة فورية.

المساهمون