"من القاهرة" لهالة جلال: تصويرٌ هادئ لغليانِ واقعٍ

30 مايو 2022
هالة جلال تحضيراً لتصوير لقطة "من القاهرة": سيرة مجتمع في سِيَر نساء (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

بتمهّل في سرد الحكايات، تروي المصرية هالة جلال، في "من القاهرة" (2021، 64 دقيقة)، تفاصيل عيشٍ في مجتمعٍ يزداد تمزّقات في بنيانه الاجتماعي والثقافي والتربوي والسلوكيّ. المرأة، الشابّة تحديداً، تواجِه تحدّيات متوارَثة، جيلاً تلو آخر، وفي الوقت نفسه تنتفض وتتحدّى وتعانِد في استعادة حقوقٍ لها، وحماية المُستعاد منها بأساليب متفرّقة. "ثورة 25 يناير" (2011) حافزٌ، يستمدّ حيويته من سيرة بلد وتاريخ أناس، وللنساء ـ في السيرة والتاريخ ـ مواقع أساسية في مقارعة قيودٍ وحصار.

قراءة هذا، من دون غيره، مُسيئة إلى "من القاهرة". مسائل عدّة تُصبح جوهر حكاية وانفعال وسلوك وتفكير وموقف، رغم أنّها تبدو هامشية، أحياناً. علاقة الشخصيتين الأساسيتين، هبة خليفة وآية الله يوسف، بنفسيهما، جسداً وعقلاً وانفعالاً وتأمّلاً ورغباتٍ، جزءٌ أساسيّ من النصّ الحكائيّ. ترجمة هذه العلاقة في سلوكٍ يومي مع آخرين/أخريات، لجعله ركيزة عيشٍ لا مجرّد تمرّد، تصنع مساحةً أكبر في قراءة راهنْ ووقائع، بعيونهما واشتغالاتهما وأقوالهما، وبعض القول بوحٌ حميميّ. التمرّد، نظرياً وفعلياً، يتلازم ومسلك كلّ شخصية منهما إزاء الذات والآخر، كما إزاء أشكال تعبيرٍ تراهما الشخصيتين مساراً حياتياً، لا مجرّد فعلٍ آنيّ للتحدّي.

ببساطة سينمائية غير مُدّعيةٍ فذلكاتٍ بصرية، وغير متباهيةٍ في تضمين النصّ والشكل ما يوحي ببراعةٍ متصنّعة، ترافق هالة جلال الشخصيتين، كلٌّ في عالمها ومساراتها وانفعالاتها وحياتها، وفي لحظات مواجهةٍ مباشرة، وفي مسائل تمسّهما وتدفعهما إلى تبيان ما فيهما من مشاعر ورؤية وتمنّيات. ميلهما إلى كتابة وفنون، كالتصوير الفوتوغرافي وتحقيق الأفلام والرسم، أو إلى رياضةٍ (آية الله يوسف)، فيها شيءٌ من المواجهة والتحدّي، وإصرارٌ على الفوز من دون عنف (Roller Derby: رياضة تلامسية تُمارَس على زلاجات في مسار مستطيل، بهدف تمكّن لاعبة/لاعب من تخطّي المنافسين/المنافسات، من دون رميهم أرضاً، أو الخروج من المضمار). اختيار رياضةٍ كهذه غير عابر، إذْ فيها ما يعكس شيئاً من ذات آية، وتوقها إلى كسر حصارٍ، تُتقن تحطيمه من دون عنفٍ وتنظير ومبالغة في التطرّف. اختيار رياضة كهذه تكاد تُشبه، في شكلٍ ما، اختيارها صنع الأفلام، ففي السينما إمكاناتٌ (نفسية وتأملية ومعنوية، تحديداً) تُتيح كسراً للحصار أيضاً، بقول المُشتهى وإنجاز المطلوب، سينمائياً على الأقلّ.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

هالة جلال، بدورها، تُغامر في اختبار تجربة البحث، مُجدّداً، في شأنٍ نسائيّ عبر فيلمٍ وثائقيّ، إذْ ترى في "من القاهرة"، وإنْ بشكلٍ غير مباشر، وبحسب الراوية (أتكون هي نفسها المخرجة/الكاتبة؟)، محاولة سينمائية لإزالة خوفٍ مزمن، أو لتخفيف ثقل هذا الخوف (أنا ستّ وخايفة)، أو بعضه. ما تقوله الراوية يكاد ينبثق من شعورٍ تعيشه هبة وآية، ومن نظرةٍ وعيشٍ لهما أيضاً. أساساً، اختيار جلال لهما متأتٍ من توافقات، ظاهِرة أو خفيّة، بينهنّ، كأنّ الشخصيتين تتبادلان، معاً ومع هالة جلال، مرآةً تُعرّي بصدق، وتبوح بعمق: "مع كلّ تجربة مؤذية في حياتي، كان الخوف يزداد. ورغم معرفتي بأنّ الخوف أسوأ دوافع الاختيار، لكنّي أحسّ أنّي نجحتُ، على الأقلّ، في ألاّ أعتاد القسوة (عندما تُوجَّه إليها وتُمارَس عليها)، وألاّ أقبلها"، تقول الراوية، مُضيفةً أنّها، بعد تعرّفها إلى آية وهبة، "تعلّمتُ جديداً: أنْ أتصالح مع الخوف الذي في قلبي".

أيكون التصالح مع الخوف بداية دربٍ طويل للتخلّص منه، أم أنّ الخوف يُلازم المرء في حياته كلّها، والتصالح معه تخفيفٌ من ثقله و"قسوته"؟ الإجابة معلّقة، فلكلٍّ اختباره، والاختبار معطوفٌ على شعور ووعي ومعرفة وانفعال وتفاصيل عيش وتفكير.

لهالة جلال وثائقيّ بعنوان "دردشة نسائية" (2004)، يغوص في أحوال المرأة والمجتمع في مصر، في مسار يبدأ من أوائل القرن الـ20، وينفتح على سِيَر 4 نساء في عائلةٍ واحدة، ينتمين إلى أجيالٍ مختلفة. معاينة أحوال المجتمع حاصلةٌ في لقاء جلال مع النساء الـ4، وفي حضّ كلّ واحدة منهنّ على أنْ تروي حكايتها، والحكاية مرتكزةٌ على مسائل خاصّة في أزمنةٍ مختلفة، ومع بيئات عامّة. الحكاية الذاتية مرآة لحكاية بيئة واجتماع وثقافة وتربية، والتحوّلات الحاصلة في سيرة العائلة وأجيالها منبثقةٌ من تحوّلات البيئة والاجتماع والثقافة والتربية. اللعبة السينمائية في "دردشة نسائية" تعتمد على بساطة سرد وتصوير (مروان صابر) وتوليف (داليا الناصر)، للتمكّن من تبيان أوضح وأجمل لعمق التخبّطات الآيلة إلى إحداث تلك التحوّلات. للجيلين الأولين نمطٌ مليء بتحرّر وعيش مفتوح على الحياة، وللجيلين اللاحِقَين أنماطٌ مفروضة من تفاقم ثقافة انغلاقٍ وذكورية، ما يدفع إحدى الشخصيات النسائية الأخرى، في الفيلم نفسه، إلى إغلاق نافذة منزلها، فالخوف يتفاقم، والقسوة تزداد.

هنا أيضاً خوفٌ يُروى ببساطةٍ فصيحة، لشدّة ما تختزنه من عمقٍ وتأمّلات وجماليات، رغم قسوةٍ (هنا أيضاً) تُعاش يومياً.

البساطة الفنية في "من القاهرة"، تصويراً (إيناس مرزوق وقسمت السيد ومصطفى بهجت وجان حاتم) وتوليفاً (آية يوسف) وإخراجاً، تُفعِّل النصّ المروي، بجعل النفاذ إلى متنه أسهل، والتمعّن في أحوال أفراد وبيئة أعمق.

المساهمون