"ليبوريو" الكاريبيّ: أسلوب كلاسيكي عن بطلٍ ملحميّ

"ليبوريو" الكاريبيّ: أسلوب كلاسيكي عن بطلٍ ملحميّ

21 ابريل 2021
"ليبوريو": عالم طوباوي ينتهي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

ككلّ القصص التاريخية والدينية، التي يرتقي فيها العاديّ إلى مصاف المُقدّس، رفع سكّان الكاريبي القصّة الحقيقية للفلاّح أوليفوريو ماتيو من عاديّتها إلى المُقدّس. خلطَتْ سرديّات خيالهم، الجامح فيها، الروحيّ/ المُقدّس بالأرضي/ الثوري. جعلوه قديساً. الحركات اليسارية والتحرّرية، في بدايات القرن المنصرم، صنعت منه رمزاً لنضالٍ، ينشد خلاصاً من عبودية وهيمنة استعمارية. أسموه، في مراحل، "قدّيساً"؛ وفي أخرى، لقّبوه بـ"الأب ليبوريو". المؤرّخون اللاتينيّون أطلقوا على حركته اصطلاحاً قاموسياً جديداً: "ليبوريزم".

المخرج الدومينيكاني نينو مارتينيز سوسا (1976) يُعيد، في فيلمه "ليبوريو" (2021، إنتاج مشترك بين جمهورية الدومينيكان وبورتوريكو وقطر)، صوغ قصّته سينمائياً، وفق نظرة تأريخية وإثنولوجية، تعكس ما اجتمع في سيرته من تنويعات قيميّة، ومسارات تراجيدية، ارتقت به إلى مرتبةٍ أسطورةٍ، شاعت في مناطق واسعة من أراضي الكاريبي.

أنجز سوسا فيلماً عن بطله الملحمي بأسلوب سينمائي كلاسيكي، رغبة منه في الوقوف خارج دائرة الهالة الكبيرة المحيطة بصاحب Cocote (إنتاج 2017)، المخرج الدومينيكانيّ نلسون كارلو دي لوس سانتوس أرياس (1985). وأيضاً بسبب أسلوبه المبتكر، وجمعه بشجاعة نادرة أنساق مدارس سينمائية مختلفة، بدا فيها أرياس كأنّه يكسر أعرافاً وقواعد مدرسية جامدة، تضع عراقة تاريخ إنتاج البلد شرطاً لظهور سينما مهمّة فيه. وَصفُه بواضع جمهورية الدومينيكان على الخريطة السينمائية العالمية، ورائد السينما المستقلّة فيها، ليس جزافاً، والابتعاد عن تأثيراته مطلوبٌ من مخرج مثل سوسا، يعرف ما فيه من موهبةٍ، تُجيز له خوض مغامرة الكلاسيكيّ المُحكَم، وهو يتقدّم نحو تجسيد صراعات سياسية، وروحانيات كاريبية، تشابكت فيها المسيحية الوافدة بلاهوتية لاتينية هندية الجذور، سبقتها ثم توافقت معها. وكان على عدسات الكاميرا (35 ملم) استحضارها كما هي، بأقلّ درجات الضوء قوّة وأشدّها دفئاً، مُكلّفة بذلك حاملها (تصوير مذهل لأوسكار دوران) عبء استنباط تماثلات الوعي الجمعي الكاريبيّ بالصورة.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

قصّة ضياع الفلاح ليبوريو، وسط الأعاصير العاتية، وفقدان كلّ أثر له بين الجبال والغابات المطيرة، ثم ظهوره المفاجئ مجدّداً، تُمهّد كلّها الطريق أمام المخيال الشعبي لنسج أسطورة حوله، تُحيل انبعاثه إلى قوّة غامضة (ما وراء الطبيعة)، أعانته على الخلاص، وأوكلت إليه مهمّة بسط العدالة بين الناس، وأخذهم إلى الإيمان والتحرّر من شرور الجسد. عند خروجه من باطن كهف عميق مظلم، ادَّعى امتلاكه قدرة عجيبة على شفاء المرضى وصنع المعجزات، صدّقه كثيرون، ومضوا معه في عزلة أسّست مجتمعاً عادلاً وطوباوياً واشتراكياً. روحه تتغذّى على موسيقى وأناشيد دينية، استلهمت معتقدات عميقة الجذور، متأصّلة بين فلاحيّ الكاريبي وبسطائه.

لم يدم عمر المدينة الفاضلة طويلاً. أخاف وجودها أثرياء الإقطاع، وقلقهم من خسارة فلاحيهم، عبيدهم وقوت مزارعهم. تآمروا وسرّبوا السلاح إليها. وبحجّة وجود هذا السلاح مع الطامحين إلى الاستقلال، ومنعاً من توسيع رقعة مدينتهم المكتفية بذاتها، والناشرة قيمها التحريرية، خطّط الجنرالات الأميركيون (المارينز) لسحقها.

الاشتغال السينمائي يأخذ سمات مرحلتين، مرّ بهما مجتمع ليبوريو، ويتوافق معهما جمالياً: قَبل التدخل الأميركي، وبعده. في الأول، الروحيّ طاغٍ. الأناشيد تأخذ مساحتها، فتحيل المَشاهِد إلى بهجة طافحة. الممثل فيسينت سانتوس يتماهى في دوره مع التكوين الروحي لليبوريو، ويجسّد ببراعة شخصيته كزعيم لا تفارق كلمة استقلال شفتيه (جاء سانتوس إلى التمثيل من الغناء الشعبي، وهو راقص أصلاً). ما يُجسّده على الشاشة يتوافق بالكامل مع تكوينه. ألغى هذا التماهي الحدود الفاصلة بين الدور الذي يؤدّيه والفنان الموسيقيّ. على الشاشة، هو فلاّح مُنشد مع الجموع، وتوّاق إلى الحرية من ظلم إقطاعيين ومحتلّين. الكاميرا ظلّت دائماً قريبة منه. فتحات عدساتها مكتفية بالنور الواهن (برتقالي) المقبل من مشاعل خافتة تنير المكان. الجموع (كومبارس) فلاّحو المنطقة، ومنشدو تراتيلها الدينية، بإيقاعات أصيلة لا تشبه مثيلاتها في كنائس المدينة البعيدة. أجواء الفصل الروحي مبهرة. طقوس العالم الطوباوي بسيطة، كتكوينه، وفي متونها نواة حدث مأساوي دائماً، يحاكي مظلوميّتها.

الصراع المسلّح ومقاومة الوجود العسكري الأميركي يمهّدان، درامياً، لمرحلة ثانية وأخيرة من وجود المدينة الفاضلة. يقارب سوسا مفهوم "لاهوت التحرير"، المنتشر في أميركا اللاتينية منتصف ستينيات القرن الـ20، مميَّزاً طبيعة نضالات القارة. يريد، بالإحالة الذهنية إليه، تكريس أُبوّة المصطلح، وجَذر شجرته لـ"ليبوريو".

في الوعي الجمعي الكاريبي، فكرة التأسيس متجذّرة أصلاً. لكنّه أراد نقلها إلى العالم سينمائياً، بأكبر قدر من الإبهار البصري، المشفوع باشتغال مدروس على التفاصيل التاريخية والمكانية. لم يكتفِ بالمكتوب والشفاهيّ، لأنّه أراد للبصريّ أنْ يستذكر فلاّحاً، قاوم أعاصير عاتية، وأقام مجتمعاً عادلاً، لكنّه سقط سريعاً برصاص بنادق جنود، نزلوا من متون سفن حربية أجنبية، رست قبالة سواحل الكاريبي.

المساهمون