"على صفيح ساخن"... في النفايات ومافياتها
يبدو أن المسلسل السوري، "على صفيح ساخن"، لمخرجه سيف الدين سبيعي، ومؤلفيه علي وجيه ويامن الحجلي، قد منح لنفسه بطاقة عبور، استطاع من خلالها تجاوز الجدار الإسمنتي الذي تقبع خلفه باقي أعمال الدراما السورية، بمختلف أشكالها، منذ سنوات. على قاعدة "السهل الممتنع"، تنتشر خيوط العمل وتتشابك. تمسك الأحداث، منذ الحلقة الأولى، عصب الحكاية. لا أدوار شكلية للشخصيات ولا تفرّد أمام الكاميرا. وحدها الوقائع تفترش عين المشاهد وتأسره بتوازنها وترابطها. أزمة تليها أزمة، وحكاية تقود حكاية، وتمهد لأخرى.
قالب درامي متوازن، يدفعنا للتعمق أكثر في تفاصيل العمل وعناصره للكشف عن خلطة متناغمة تستحق معها كل دقيقة مشاهدة. قضايا حساسة تدخل في العمق الاجتماعي لحياة السوريين. لا تتجاوز بحساسيتها فضل المألوف مما اعتادت الدراما السورية تقديمه، قبل الحرب أو بعدها. ولكنْ لكل مادة درامية مكيال. ومكيال هذا العمل أناقته في تصريف الواقع بصريًا بلغة درامية جريئة، بلغت ذروتها حين نبشت في العمق، فأخرجت ما لم تفِهِ الشاشة السورية حقه كاملًا في ما مضى، من دون أن نلصقها بدعة الاتهام.
الحكاية دخلت ربعها الأخير. انطلقت من عند شيخ الكار، صاحب الأدوار الجذابة، سلوم حداد، الذي يقدم شخصية "زهير الطاعون". يجاريه يامن الحجلي بشخصية "عياش". هاتان الشخصيتان تقودان عالم النفايات ومكبات القمامة، بصراعاتها ومكائدها ودسائسها، تحت جناح السيطرة على قيادة المكبات. توليفة متفردة شكلًا ومضمونًا، تدخل وتخرج إليها باقي خيوط القصة. تستوفيان جميع متطلبات الشخصية الدرامية، شكلًا وأداءً وحضورًا، وتستنزفان معها تفاصيل البيئة المعدمة والمهمشة بكامل عناصرها، لغةً وحوارًا وتصويرًا. فلا نجد بدًا من التآلف معها. تصوير مكبات النفايات والأجواء المحيطة بها، يسمح بالتعايش معها وفهمها والتعرّف إلى القائمين عليها، من دون تكلّف عاطفي وأخلاقي، بدءًا من الأطفال المهمشين وطريقة عيشهم وعملهم داخل هذه البيئة القذرة التي لم تطأها كاميرا مخرج سابقًا، وصولًا إلى كبار الكار وعلاقاتهم المهنية مع الصنعة ومداخيلها ومخارجها، وبارتباطاتها مع الجهات الرسمية في البلد.
من هنا، يستعرض سبيعي قذارة الحياة والشخوص والنفوس، فتقبض مشاهد النفايات والقمامة عنق المسلسل، وتأسر المشاهد من دون مساومات على الحبكات الفرعية. فلكل شخصية حكاية وحبكة، يُخاض الصراع فيها بموازين مختلفة. صراع النجاة والعيش والكرامة، يمثله دكتور التجميل "هاني الحجار" (ميلاد يوسف). وصراع المبدأ تمثله مذيعة البرامج "ريما" (علياء سعيد) زوجة هاني. صراع البقاء والحفاظ على الأسرة التي يقودها الشقيق الأكبر، هلال الحجار (باسم ياخور). صراع النجاح وشهوة المال تقوده هند الحجار (أمل بوشوشة) شقيقة هلال، ومفتاح الربط بين أفراد العائلة شخصية "أبو كرمو" (عبد المنعم عمايري) الذي يقود هلال مكرهًا إلى عالم المخدرات.
هذا العالم يتداخل مع حياة هند عن طريق الزوجة "أم كرمو" (نظلي الرواس) التي تقود عالم تبييض الأموال، تحت غطاء الجمعيات والمؤسسات الخيرية والدينية، التي تلتهم الناس بقبضة بوليسية في سبيل الاستملاك ووضع اليد على المطاعم والمحال المنافية للقيم الإسلامية. وعن الفساد وسرقات الأدوية والعقاقير الطبية يقودها زوج هند "نسيم" (سيف سبيعي).
والصراع الأخير بين عائلة الحجار وخالهم الطاعون حول مبلغ مالي استدانه الأخير قبل سفرهم، وتحول العداء في ما بينهم إلى تحالف أفرزته تقلبات اللعبة وقدرها. تتفرع الخيوط من دون تلاشيها، وتتقدم الحكايات من الخلف. تعود عائلة الحجار من سفر فاشل بعد هروبهم من البلد وأزماته. قضية صورت بشكل هامشي، ليفسح المجال أمام قضايا ذات صلة أكبر بحياة السوريين الموالين للنظام السوري، وواقعهم الاجتماعي والمعيشي.
واقع مزر ومحبط وقذر تتلقفه عائلة الحجار بعد عودتها، لتنطلق بعدها الحكاية من الطرف الآخر لعالم النفايات بشكل متوازٍ، لا تختلف بمضامينها عن قذارة الحياة وتفاصيلها داخل بيئة "النبّاشين".
هكذا، تغدو المحاور أكثر ثباتًا وانسيابية، تدعمها وصلات من الفلاش باك لتعرية المواضيع قبل نضجها في سياق الحلقة الواحدة، ما يمنح إيقاع العمل سمة التوازن في البناء الدرامي. ولما كان لهذا التوازن من كفاءة وإتقان لولا ما تمنحه شخصيات العمل من تفانٍ في الأداء، والسيناريو العام للأحداث من بساطة التركيب والتوليف في سير الحكايات والأزمات، والإخراج في الغوص في ثنايا الواقع لاستخراج المحظورات منه، وترجمتها بلغة بصرية بسيطة تحجب عنها أية رتابة يمكن الوقوع فيها.
دلالات
المساهمون
المزيد في منوعات