يتميّز مسلسل "سوق الدلالة" (2021) للمخرجة التلفزيونية المغربية جميلة بنعيسى البرجي بروح مرحة، مقارنة بمسلسلاتٍ وأفلام داخل القناة الثانية من التلفزيون الرسمي، ذلك أنّ الرغبة في التجديد تبدو بارزة المعالم في تجربتها الفنية منذ مسلسل "نوارة" (2016) مروراً بـ"الغريبة" (2020) ووصولاً إلى "سالف عذرا" (2021)، وهي أعمالٌ تلفزيونية بقدر ما تنزع صوب التجريب الفني على مستوى الموضوع، فإنها تتجذّر بصورها وثيماتها داخل الاجتماع المغربي.
وإذا كانت جميلة بنعيسى البرجي من أكثر المُخرجات التلفزيونيات المغربيّات غزارة وإنتاجاً في السنوات الأخيرة، فإن ذلك لا علاقة له بالتهافت على احتكار الشاشة الصغيرة، حيث تتفاقم هذه الظاهرة مع مطلع كل رمضان، وإنّما بحكم انشغالاتها، وقدرتها على الغوص بطرقٍ مختلفة ومتباينة في تشريح جسد واقع مغربي متحوّل ومنكوب.
من الصورة الواقعية المباشرة الفجّة إلى الصورة الفنّية المُتخيّلة تتأرجح مُجمل مسلسلات جميلة بنعيسى البرجي، مع أنّ المرجع الواقعي المغربي يظل نفسه، وأحياناً يظهر مغايراً ومتلوّناً بين عملٍ درامي وآخر، حسب الخصائص الفنّية والجماليّة لكل نصّ. بيد أنّ العامل الأساس الذي يجعل مسلسلاتها تحظى بإقبال كبيرٍ أنّها تبقى لصيقة بمسام الواقع المغربي، بتاريخه وتراثه وذاكرته وأعطابه ونتوءاته وزلاته. إنّها تقتحم بقوّة مفهوم الواقع الدرامي، لا لتُغيّره أو تُعالجه، ولكن لتُبرز مكامن القلق والخطر داخل هذا الواقع المُتحوّل.
ففي "سوق الدلالة" تعتمد جميلة بنعيسى البرجي على نوعٍ من الدراما التراثية والواقعية والاجتماعية، حيث تعطي أهمية للحوارات ومعجمها الفني، من أجل خلق تطابقٍ بصري بين بنية النص وجماليات الصورة. لذلك، فإنّ أغلب حوارات مسلسل "سوق الدلالة" قد تبدو بعض معانيها مغلقة وغير مألوفة للأجيال الجديدة، بحكم اللغة التراثية المضمرة في ثنايا خطاب النص.
الدراما التراثية عند البرجي ليست مجرّد تمويهٍ بصري أو ادّعاء جمالي أو حتى موضة درامية بدأت في الآونة الأخيرة تطفح على سطح المَشهد المغربي، بل طريقة ذكية لإقامة تناغماتٍ بصريّة، بين لذة الماضي وقهر الحاضر. إنّها المخرجة التي تلجأ إلى التراث، نصّاً وحكاية وفضاءً وأكسسواراً، لإدانة بعض من هذا الواقع وما يحبل به من مآزق وتصدّعات. يطالعنا التراث في "سوق الدلالة" بوصفه هويّة مغربية وطريقاً للتحرّر من أساطير حاضرٍ متبدل. هكذا تبرز الحكاية بوصفها معطى اجتماعياً تتأرجح بين التاريخ والحاضر، ذلك أن التاريخ يحضر دوماً باعتباره ذاكرة معتّقة في جرار الزمن المغربي، أمّا الواقع فيتجلّى في كل دقيقة، عن طريق تفاصيل الحكاية وشخصياتها الخاضعة لميكانيزمات ومسارات النص.
ترصد المُخرجة مأساة امرأة مغربيّة تُدعى "هنية" (جميلة مصلوح) تتعرض لحادثة سير، ما جعل ابنتها "أمل" (خديجة زروال) تترك دراستها، بحثاً عن كسرة خبز داخل محل والدتها، في سوق الدلالة. هنا تتغيّر كاميرا جميلة بنعيسى البرجي، ويُصبح عنصر التشويق ضرورة مُلحّة وملاذاً جمالياً تُضيء به الحكاية، مع أنّ طبيعة العمل الدرامي ومساراته الجمالية ستتغير منذ الحلقة الثانية، وتتحول عدسة الكاميرا صوب شخصية "أمل" وعلاقتها بـ"يوسف" (محسن مالزي).
ويبقى المُثير للدهشة داخل المسلسل أنّ المخرجة لم تسقط منذ المشاهد الأولى في فخ نمطية الحكاية وابتذالها واستنفاد مساراتها الفنّية وأفقها الجمالي عبر سردٍ رتيبٍ في بناء الشخصيات وعوالمها الاجتماعية داخل فضاء الصورة، لأنّ الكاميرا بقيت مرتكزة على رصد الواقع، ثم انتقلت إلى تفكيك مفهوم السلطة بين أهل التجارة في سوق الدلالة، على خلفية أن هذا الفضاء الدرامي المتخيّل يشكّل رمزياً نموذجاً مُصغّراً للمجتمع ككلّ.
واعتماد النمط السيميائي في تحليل خطاب المَشاهد يظلّ عاجزاً أمام صورة فنية تتجذر أكثر في بنية جسد المجتمع المغربي، مُحاولة فهم آلياته من الداخل لا من الخارج.
لكن في حمأة صراع الشخصيات داخل "سوق الدلالة" تبرز فطنة البرجي في نزع القداسة عن دراما التراث، عبر اللعب على حدّة السرد واعتماد نمطين من التصوير: الأوّل يرصد ذاكرة وتراث وفضاء حي "الحبوس" في مدينة بالدار البيضاء، عن طريق اللعب بالأضواء وجماليّات المعمار الكولونيالي وبهاء الألوان وجعلها تنعكس بثراء كمُؤثّرات بصريّة برانيّة على عنصر الصورة، والثاني يروم أساساً إلى تفكيك براديغم الواقع والكشف عن جملة مشاكل تعترض سير وتقدم هذا الواقع، انطلاقاً من سلوكيات مجموعة من الحرفيين المَغاربة داخل سوق الدلالة (مكان لبيع تحف قديمة) والسفر في يومياتهم ومشاكلهم ومخيالهم الجمعي والعائلي.
وتركّز المخرجة على كل فرد داخل المسلسل، ومنه تتوغّل في مشاعره ومشاكله واجتماعه بطريقة ذكية، تجعل المُشاهد منذ أول حلقةٍ يفهم عناصر النص، ويتشابك مع شخصياته، ويتطلّع بعنفوانٍ إلى فهم تاريخه وذاكرته.