"سكرين شوت": أن يحضر الماضي كله دفعة واحدة

12 اغسطس 2021
عدم النسيان الذي ترسخه التكنولوجيا يهدّد وعينا بأنفسنا كبشر (Getty)
+ الخط -

تداولت وسائل التواصل الاجتماعي، العام الماضي، صورة شاشة الهاتف (Screenshot)، الخاص بجيف بيزوس، والتي نشاهد فيها الرسالة التي تبادلها مع محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة العربية السعوديّة، والتي يُقال إنها تسببت باختراق هاتف بيزوس، وفضح علاقته الغراميّة. وازداد الأمر إشكالية مع فضيحة "بيغاسوس" الخاصة بالتجسس، التي أوضحت بدقة كيف يمكن أن تتحول هواتفنا إلى نوافذ يطل منها المُختَرِق على خصوصياتنا وأحاديثنا وصورنا، وكل ما يمكن أن يلتقطه الهاتف.

ما يهمنا في ما سبق، هو صورة الشاشة، أو الـ"سكرين شوت"، تلك العلامة التي تلتقط ما يدور على هواتفنا النقالة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالمحادثات الخاصة والحميميّة، تلك التي نظن أنها تصب في أسماع الآخر فقط، من دون إمكانية استعادتها أو نزعها من سياقاها.

الثقة هي العامل الذي يتحكم بالمحادثات الشخصيّة، لكن صور الشاشة هددت هذه الثقة، وحولت وسيط التواصل إلى مساحة مرعبة، يمكن أن تتحول لاحقاً إلى محرك للفضيحة أو حتى دليل قانوني، وهذا ما نقرأه في مقال نُشر في مجلة "أتلانتيك"، الذي يناقش الميزة التي لم تفعلها شركة "آبل" عام 2017 في هواتفها الجديدة، والتي يتم إثرها إرسال تنبيه إلى "المتحادثين"، بأن واحداً منهما التقط صورة للشاشة Screenshot، كما يحدث في تطبيق "سناب شات".

لم تفعّل "آبل" الميزة بعد الانتقادات الشديدة التي طاولتها عند الإعلان عنها. لكن، ما زالت صورة الشاشة أداة وعلامة اكتسبت الكثير من الأهمية في عالمنا، الذي انتقل فيه التواصل إلى "الشاشة"؛ فالعمل والتعارف والجنس كله يمر عبر الخوارزميات وتظهره البيكسيلات، وصورة الشاشة تهدد "النسيان"؛ إذ هناك كثيرون ممن "يحفظون" محادثاتهم، محرّرين إياها من السياق التداولي الآني لظهورها، ومحولين إياها إلى شكل أرشيفي، خال من النبرة ولحظة التواصل، ما يخلق رعباً لدى كثيرين، ويضبط أسلوب تواصلهم بسبب احتمالات أن يكون ما "يُكتب" سيحفظ في مكان ما، وقد يظهر لاحقاً.

هناك سياقات تظهر فيها صور الشاشة كشأن مضحك، يفتضح الآخرين علناً ويحولهم إلى أضحوكة. وفي سياقات أخرى، هي أمر حميمي، يستعيده الفرد وحيداً، في محاولة لالتقاط ما مضى، أو دليل قانوني يمكن أن يدين أحدهم، خصوصاً أنّ "تكذيبها" يختلف عن الادعاء بأن أحدهم قال كذا وكذا. فكونها تلتقط لحظة الحديث، هي تراهن على وعي الطرفين، والثقة، لا احتمالات الفضيحة أو الانتشار، لتتحول إلى سلطة على التواصل، فلا وسيط آمن، بل يمكن القول، إن عبارة "كلام لا يقدم ولا يؤخر"، أو "هذا مجرد كلام"، أصبحت صعبة التحقيق، ولا بد من سياق خال من أي وسيلة من وسائل المراقبة أو التواصل، التي يمكن فيها للشخص فعلاً أن يقول شيئاً، لن يحفظ إلا في الذاكرة الهشة لمن يستمع، تلك المساحة التي يمكن التشكيك بها، والتي يستحيل أن "تستعيد" ما تم قوله بحذافيره.

نقرأ في مقال "أتلانتيك" عن تاريخ صور الشاشة، وكيف نشأت، سواء في عالم الحواسيب أو ألعاب الفيديو، أو تلك التي يمكننا أن نلتقطها، وأثرها المضحك أحياناً والخطير أحياناً أخرى. لكن ما يشار إليه بصورة عابرة هو الذاكرة، بمعناها الرقمي والإنسانيّ؛ فعدم النسيان الذي ترسخه التكنولوجيا، وكيفية التعبير عنه، يهدّد وعينا بأنفسنا كبشر، وطبيعة علاقتنا مع الآخرين، فتعدد الوسائط التي تتيح "انبعاث" ما مضى من الذاكرة، يتركنا أمام أرشيف وكتلة من الكلمات والصور والأحداث التي يمكن أن تلاحقنا في أي لحظة.

تزداد سطوة ما سبق مع التحولات الهوياتية والقانونية التي نشهدها، فألا ينسى "العالم" و"الأفراد"، يعني القدرة على تحويل الماضي إلى سلطة حاضرة دوماً لا تتلاشى، سواء كان هذا الماضي محرجاً أو خارج سياقه، وكأن كل ما سبق يتكدس في صورة واحدة، وبضع كلمات تم تبادلها في لحظة ما يمكن أن يختلف معناها بين الحاضر والماضي. وهنا يظهر التساؤل الآتي: كيف يمكن لنا أن نحيا والماضي كله يهددنا بأن يحضر دفعة واحدة؟ وإن كان كل ما يمكن أن نكتبه وننطقه معرضاً لأن يكون ملكاً للجميع، فهل من صيغة "نظيفة" للتواصل؟ صيغة لا تاريخيّة قادرة على عبور كل الهويات والصوابية السياسيّة في ذات الوقت تحافظ على "نظافتها" طوال التاريخ؟

لا إجابة عن الأسئلة السابقة، فالثرثرة نفسها يمكن أن تتحول إلى "خطاب" جدّي، ربما الصمت، والاقتصار على التواصل الشخصي هو الحل، أو المغامرة، والإيمان أن هناك من يجب أن نثق بهم، من دون طرح التساؤلات حول أرشيفهم الشخصي من الـscreen shots.

المساهمون