لم يُعرف عن المنتج وعازف الدي جيه الفرنسي من أصل جزائي، ويليام سامي غريغاسين (1986) قُربه من الموسيقى المحلية لشمال القارة الأفريقية، ولا استلهامها في تسجيلاته. لقد شق طريقاً برّاقة صعوداً إلى طبقة المُنتجين الأكثر شهرة في ميدان الأغنية الإلكترونية الجماهيرية الراقصة. أنتج لنجومٍ غربيين كبار، وحقق نجاحاً تجارياً عالمياً.
لذا، لم يحتج الورقة الاستشراقية في أي وقت مضى، وذلك بغية لفت الانتباه إليه من بين آلاف الموسيقيين، الذين يُديرون الأسطوانات على مدار الليالي، يوصلون الكبلات بالحواسب والمُكبّرات، يتنافسون على الفوز بإحياء السهرات في مراقص برلين وباريس ولوس أنجليس، والتربع على لوائح "الأكثر استماعاً".
السؤال الذي قد يطرح نفسه إذاً: لمَ الآن؟ ففي نهاية الشهر الماضي، أطلق دي جيه سنيك DJ Snake (وذاك هو لقبه الفنيّ) أغنية مصورة بعنوان "ديسكو مغرب" (Disco Maghreb) تيمناً بعلامة التسجيل المغاربية المعروفة. تُعدّ الأغنية نسجاً على منوال اللون الشعبي المُحدّث إلكترونياً، والذي يُمكن اعتبار أهازيج الأعراس، المعروفة بـ "الشاوي"، لوناً مغاربياً من ألوانه.
بحسب المشهد الموسيقي الراهن، وبحساب فطنة المُنتج إزاء حركة السوق الفنية، يبدو الجواب أن ويليام سامي يودّ ركوب موجة ما بات يُعرف بـ التكنًو الشرقي (أورينتال تكنو)، الذي غدا منذ قرابة العقد، تقليعةً رائجة على امتداد العالم العربي ومهجره الغربي. أما الجواب، بحسب الفنان الفرنسي المولود لأم من الجزائر، هو أنه قد أراد لعودته إلى الساحة الفنية صيف هذا العام، أن تكون جزائرية مئة بالمئة.
بالحديث عن الجزائريين، وبعد أن حقق الفيديو كليب المرفوع على منصّة يوتيوب أكثر من ثلاثة ملايين مشاهدة، أتت الأغنية مثيرةً للانقسام. منهم من أحبها؛ فرأى فيها تمثيلاً أصلياً للحياة والثقافة الجزائرية. ومنهم من اعتبرها إساءة إلى سمعة البلد الأفريقي المُطلّ شمالاً على أوروبا من شُرفة البحر المتوسط.
الإساءة ربما، أتت من مشاهد الفيديو، التي تعْرض الشبان الجزائريين في أوضاع يبدون من خلالها مثل رجال العصابات. يمتطون الدراجات النارية ويلهون بالأسلحة النارية. أو لعلها المشاهد المُريبة لحارات المدينة المُتشحة بدخان العوادم. الغاية من تلك الصور، طبعاً، تقليد أجواء أغاني الراب الأميركية، التي عادةً ما تعكس البيئة التحت أرضية لحياة حواضر ما بعد الصناعة. بيئةٌ، أخذت بفضل العولمة، تُميّز بعض المدن العربية أيضاً، تلك المكتظة بالسكان والمركبة لجهة علاقاتها الاقتصادية والاجتماعية.
تعْرض مشاهد الفيديو الشبان الجزائريين في أوضاع يبدون من خلالها مثل رجال العصابات
بذات الصدى الذي عبّر به الراب عن حياة تحت الأرض، والطبقات الاجتماعية المهمّشة في الغرب، تُعبّر اليوم موسيقى الشعبي عن حياة تحت الأرض في المجتمعات العربية. شبيهةً بما شاع في مصر منذ أول الألفية، وما بات يُعرف اليوم بأغاني المهرجانات، انتشرت الأغاني والرقصات التي ارتبطت بأعراس الريف وملاهي الهوامش الحضرية، يُصاحبها لون الطبل مصحوباً بأنواع المزمار المحلية كالمزوج واليرغول في الشام، أو القصبة والمزود ذات القربة الجلدية في شمال أفريقيا. استغلالاً للتكنولوجيا واختصاراً للتكاليف، علاوة على ندرة العازفين المحليين، استُبدلت المزامير وشبيهاتها بآلة الأورغ الكهربائية. ليكون بذلك المدخل إلى ظاهرة الأورينتال تكنو.
من الناحية الموسيقية، فإن الأجواء الإلكترونية بمكبراتها الصوتية الجهورة، وجملة مؤثراتها التي تُحاكي أصوات المنشآت الصناعية وحياة المدن الكبرى، كهدير المحركات الكهربائية وصفير الحقول المغناطيسية، كلها تتماشى مع صوت المزمار الحاد والمرتفع، وأثره الجارح على الأذن، وبالتالي المُهيّج والمُحفّز للدبك والرقص.
البُعيّدات الشرقية، بدورها، التي تُميّز المقامات الشائعة في الأغنية الشعبية، كالصبا والبيات، بقلق نغمتيهما الثانية، والهزام، باضطراب قراره وهبوط رابعة العقد فيه، تُثير الأُهبة في النفس والرغبة بالمزيد من الرقص. أما البدن، فتُحرّكه الإيقاعات الفلكلورية ثنائية النبض، كـ "أيوب" و"ملفوف"، في توافقٍ مع الإيقاع العاري والرتيب الذي تتمتع به موسيقى المراقص وحفلات الديسكو.
يبدو أن دي جيه سنيك يود أن يتخذ من التكنو الشرقي توجّهاً
أما من الناحية الاجتماعية، فإن رواج اللون الشعبي ومثله موسيقى المهرجانات، مرتبط بزوال الطبقة الوسطى المطرد منذ نهاية القرن الماضي. لم يقتصر ذلك على المنطقة العربية وحدها، وتعدّاها إلى معظم دول العالم؛ إذ تعمّقت الفجوة الاقتصادية بين قلّة مُتنفذّة ومنعّمة، وكثرة تعاني الفاقة والتهميش، لا تحظى بالفرص، وتغيب عنها التنمية.
ومع تمدد اقتصاد السوق وتجذّر الفساد في كثير من دول العالم الثالث، بات معيار الرُقيّ الاجتماعي مقتصراً على الثراء المادي والتنفّذ داخل دوائر الدولة وأجهزتها، ولم يعد ليشمل اللغة السليمة، والأدب الرفيع، والثقافة الواسعة والتعليم العالي، ما أدّى إلى "هبوط" الذائقة، لتصبح تحت أرضية بصورة عامة، تشترك بها قمّة المجتمع مع القاع.
من هنا، اكتسب اللون الشعبي قاعدته الجماهيرية المحلية العريضة والعابرة للطبقات والمكونات الاجتماعية. ثم أتى الربيع العربي، ليدفع به إلى المهجر ومعه الملايين من شباب المنطقة، الذين تماهوا بالثقافة التحت أرضية، ووجدوا في موسيقاها، وهي تُحدّث إلكترونياً وتُلعب في النوادي الليلية، صدى لأصواتهم وأصوات كل المهمّشين، الذين ذهب الكثيرون منهم وقوداً للانتفاضات والحروب خلال العقد الماضي.
الغرب، في المقابل، مدفوعاً بالهبّة التقدمية والانفتاح المتزايد على قضايا التحرر لجنوب الكرة الأرضية وبلدان المستعمرات الغربية السابقة، صار يبحث للمهجر الشرق أوسطي الجديد عن نكهة موسيقية تُميّزه من بين "دكاكين التعددية الثقافية" التي فتحها الفنانون المهاجرون في المدن والعواصم الأوروبية.
سعة انتشار الموسيقى الإلكترونية حول العالم، والإقبال المتزايد من قبل هواة ومحترفين شباب من البلدان العربية أو المهجر العربي في الغرب، على إنتاج موسيقى عن طريق اللاب توب وآلات تركيب العيّنات الصوتية، كل هذا يزيد من حضور اللون الشعبي في المشهد الموسيقي العالمي، بوصفه هويةً صوتية سهلة المعالجة والتطبيق، وخاصة بثقافة لطالما شكّلت الغرائبية مصدر الجاذبية فيها.
بالنسبة للأذن الغربية، يُصبح العنصر التحت أرضي قيمةً مُضافةً من الإثارة الحسية، قد تجعل من الأورينتال تكنو لوناً موسيقياً معولماً، يُشبه في تعولمه، إلى حدّ كبير، لون اللاتين بوب الذي شاع خلال تسعينيات القرن الماضي. لذا، على الأغلب، فإن "ديسكو مغرب" لن تكون هدية دي جيه سنيك الأخيرة إلى الجزائر.