"أمّهات مُتوازيات" لألمودوفار: أوجاع جسد وروح وخيبات ذاكرة

11 ابريل 2022
بينيلوبي كروز: أمومة تغرق في ذاكرة حربٍ أهلية (ستيوارت سي ويلسن/Getty)
+ الخط -

 

تكمن الجاذبية الفنية لـ"أمّهات متوازيات" (2021)، للإسباني بيدرو ألمودوفار، في القدرة على التخييل وفق نمطين بصريين، في آنٍ واحد:

الأوّل يسرد حكاية يانيس (بينيلوبي كروز)، المُصوّرة الفوتوغرافية، التي تُغرم بأرتورو (إسرائيل الخالدي)، وتنجب منه طفلة. لكنْ، بسبب مرض زوجته، يُفضّل عدم البوح بذلك، مقابل تحمّل يانيس مسؤولية الطفلة وتربيتها، قبل أنْ تتكشّف لاحقاً مسألة استبدال الطفلة بأخرى، مولودة في اللحظة نفسها. في هذه اللحظة، يُعطي ألمودوفار مساحة جمالية أكبر لمفهوم الجسد، في علاقته بفعل الأمومة، محاولاً خلق تواشجاتٍ نصّية بين يانيس وآنا (ميلينا سميت)، لإبراز دور المرأة وقوّتها، باعتبارها أفقاً للتخييل السينمائي. تتقاطع مسارات الشخصيتين، اللتين تُكوّنان معاً صرحاً سينمائياً مُتناغماً، يدفعان الأحداث إلى ذروتها الدرامية.

الثاني يستحضر حكاية أخرى، تتعلّق بحرص يانيس على الحفر، رفقة صديقها، والبحث عن رفات جدّها المُناضل والمُعارض، الذي أعدمه فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ـ 1939). علاقة ألمودوفار بهذه الحرب تتبدّى قويّة، باشتغالٍ مُكثّف على عناصرها ومأساتها وأعطابها وأبعادها، وعلى ما مارسته من عنفٍ وتنكيل في الناس.

بهذه الطريقة، المُشرّعة على تأويلات بصريّة، يفتح ألمودوفار مسارات مُتوهّجة لفيلمه، وفق وجهتين بصريتين، تتعلّقان بترميم الجسد وأوجاعه، في مقابل مأساة الذاكرة وخيباتها. هناك قوّة مُظلمة وخفيّة في ذات ألمودوفار، لأنّ أفلامه تُغيِّر دائماً مَساراتها الجمالية الأولى، إلى مُنعرجات تخييلية مُبطّنة في بنية السرد، ينتبه المُشاهد إليها، أحياناً.

هذا المنعطف البصريّ الخفيّ يتبدّى واضحاً في "أمّهات مُتوازيات"، الذي يبدأ بطموح المُصوّرة في النبش في ذاكرتها الحاضرة وتاريخها العائلي، والذي تخترقه قصّة حبّ يُراد منها الإنجاب. هكذا تتغيّر بنية النصّ كلياً، مع الحفاظ على بعض عناصر جمالية. ففي منتصف الفيلم، تُنسى الحكاية الثانية، وينشغل ألمودوفار بفعل الأمومة، وعلاقتها المفتوحة على الحبّ والصداقة والشغف والمُفاجآت، قبل أنْ يعود إلى مفهوم الذاكرة مجدّداً.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

أول سمة بصرية يُسجّلها المُشاهد، تكمن في حرص ألمودوفار على جعل المرأة ركيزة أساسية في أفلامه السينمائية، إذْ تبدو المرأة أقوى في اجتماع إسباني قلقٍ تجاه ماضيه القريب. يكشف ألمودوفار نتوءات هذا التاريخ وألمه ومَواجعه، وثقله على أفقٍ مشروخٍ وحاضرٍ مُتصدّع. هكذا، يغدو الجسد معبراً للسينما، وإقامة تواشجاتٍ عميقة مع النصّ. فكلّ شيء يبدأ من الجسد، وفيه تتفجّر الرغبات والأحلام والمَشاعر، وعبره تتبرعم الصُوَر بشكلٍ مُتدرّج، وبسردٍ سلسٍ ومُتناغمٍ لا يلهث وراء الكليشيه، مع أداء مُتماسك يُغذّي هَواجسَه التلقائية ماضي الشخصية، وتأثيرها على الحاضر.

اختار ألمودوفار بدقّة شخصياتٍ مُؤثّرة بأدائها، تستوعب أهمية النص، وضرورة تبدّلها وانحرافها عن مَسارها الأوّل. لذلك، تُغيّر الشخصيات الرئيسية من حدّة أدائها بين الفينة والأخرى، وتنصاع كلّياً لطبيعة الحكاية المُتحوّلة. يُلمس ذلك في ملامحها وأجسادها وسلوكها، مع تصاعد حدّة كلّ مشهد دراميّ. نادراً ما تستوعب بعض الشخصيات المسارَ الذي تُحدثه الحكاية في بنية الصورة السينمائية، فيظلّ الممثل قابعاً في شخصيته الأولى، ما يُؤثّر سلباً على الصورة السينمائية، ويجعلها مُتناقضة بين ما يظهر على سطحها، وما يُضمره النص من تكثيف وتحوّلات.

في "أمّهات مُتوازيات"، يأخذ الجسد طابعاً ثورياً، بتحريره الذاكرة من خوفها وجمودها، ويُعطي انطباعاً واضحاً بأنّ ذاكرة المجتمعات تصنع حاضر الناس، والأخطاء الجسيمة التي ترتكبُها السلطة وتنانينها، تعيقٍ دائماً تقدّم الشعوب وتحرّرها. يتعامل ألمودوفار مع الذاكرة بوصفها حاضراً لا ينضب، بل تغدو في المَشاهد الأخيرة حاضرٍاً يُشيّد عليه المُستقبل. في نهاية الفيلم، تُعرض جملةٌ لإدواردو غاليانو: "لا وجود لتاريخٍ صامت. مهما أشعلوا النار فيه، ومهما حطّموه، ومهما زوّروه، يرفض التاريخُ البشري الصمتَ".

رغم البُعد الثوري الجدلي، الذي يُمثّله الجسد في "أمّهات متوازيات"، يحدث نوعٌ من نشازٍ بصري غير مُبرّر بين الحكايتين، لحظة ظهور حقيقة الطفلة. ما يؤدّي إلى طرح سؤال بديهي: ما علاقة الطفلة وسيرتها في نسيج الصُوَر الأولى، التي شغلت دقائق كثيرة، بمفهوم الذاكرة، وعلاقة كل هذا بتاريخ البلد في الحرب الأهلية؟ في تتبّع مراحل الفيلم، يكاد لا يُعثر على أيّ سبب يُبرّر ذلك. أمّا العودة إلى سيرة بيدرو ألمودوفار، ومفهوم السينما لديه، تكشف نوعاً من تناقض تحتويه صُوَره، فهو لا يُعطي للمُشاهد كلّ شيء، على المُستوى المرئي، بل يجعل هذا الـ"شيء" رهناً بمفهوم التأويل والإفراط فيه. وهذا، مع ضرورة فهم التناقض والتمسّك كانعكاس بصريّ لما يجول في الحياة الحقيقية.

لا شكّ أنّ انتهاج نمطٍ كهذا من الحكي المُخاتل، يجعل الصورة أكثر تركيباً وزئبقية في مُخيّلة المُشاهد، وتجعله يُقيم علاقة قويّة مع التأويل، ما يمنح مُشاهدة أفلام ألمودوفار متعة مُذهلة، أشبه بالسفر إلى عالمِ اللامرئيّ، فيغدو كلّ تأويل بصريّ مُضاعفاً، ويُعطي للنصّ/ الصورة حياة جديدة على الشاشة، وفي المُشاهِد.

المساهمون