"أمل مصر" الذي ضاع بعد الهزيمة

25 سبتمبر 2018
حليم وبليغ ومحمد حمزة
+ الخط -
دخل بليغ حمدي عالم الموسيقى بتدرج، فبدأت ألحانه متأثرة بجيل ملحنين كان آخر الملتحقين به. لكنه سيظل مديناً لجيل سابق، خصوصاً لـ محمد فوزي ومحمود الشريف، في استخدام الصيغ اللحنية السهلة، إضافة إلى أن الشريف أدخل ثيمات شعبية لألحانه. مع بليغ، أصبح التراث مصدر تحوُّل في الأساليب الغنائية المصرية، قاعدة للتحديث عبر توظيف ثيماته، أو ربما نقطة انطلاق جديدة للغناء المصري؛ أي جر الماضي وحمله على عاتق الحاضر. إنها إحدى النقاط الفاصلة التي حددت سماتها طبيعة الجمهور. كان بليغ جسراً بين عصرين، بطل التعبير عن جيل ما بعد هزيمة 1967. هل هو الإيذان بما يُسمّى "عصر الانحطاط الفني"؟

لا يمكن إلصاق حالة التدهور الغنائية ببليغ حمدي وحده، بل كانت سلسلة متصلة أصبحت مع بليغ ظاهرة جماهيرية؛ وما فعله أنه نجح في نقل ثيمات الغناء الشعبي (الشعبوي؟)، أو البلدي، إلى الغناء النخبوي. ذلك ليس عيباً إذا كان نتيجة تروٍّ، لكن إغراء النجاح فرض عليه ملاحقة سوق الغناء المتدفقة بعروضها إليه، وفي كثير من الأحيان من دون تمهل. ربما لم يجانب محمد الموجي الصواب حين وصفه بالمتسرّع، رغم امتلاكه نبعاً موسيقياً غزيراً.

كيف تشكلت إذن ظاهرة بليغ الموسيقية في مصر والعالم العربي؟
صعد اسم الفنان الشاب بسرعة، وانفتحت الأبواب أمامه من دون مشقة. هل هي ألحانه السهلة القادرة على جذب قلوب الناس؟ لنأخذ، مثلاً، أول ألحانه لعبد الحليم: "تخونوه"، كان في الثامنة والعشرين من عمره. وضع لحنه متأثراً بالموجي، وأمسك بالفرصة للقفز عالياً كملحن مشهور. عندما غنت له السيدة أم كلثوم عام 1959، كان النجاح إحدى عاداته. مع هذا، لم يكن مهيأ لمزاحمة الموجي والطويل في التلحين لعبد الحليم.

ربما لم يكن مستوى لحن "حب إيه" يرقى إلى ما سبق وغنته أم كلثوم، لكنها كانت تبحث عن أصوات لحنية جديدة مع تغير أنماط الجمهور. سنلاحظ تدرج بليغ اللحني مع أم كلثوم، من الوقار الطربي الخفيف، مروراً بتطعيم ألحانه بجمل راقصة، سيبلغ ذروته في "ألف ليلة وليلة".

كانت نهاية الستينيات بداية عصر غنائي سادت فيه ألحان بليغ حمدي، وهي مرحلة تطورت فيها صناعة الغناء مع ظهور الكاسيت، وفتحت الأبواب لدخول شرائح شعبية أوسع فرضت ذائقتها التوجهات الغنائية. في عام 1966، أعلن لحن بليغ حمدي "عدوية"، للمطرب الشعبي محمد رشدي، تلك الميول. وهو الإغراء الذي دفع عبد الحليم حافظ لغناء هذا اللون، ليغني بعدها مباشرة "على حسب وداد قلبي" و"أنا كل ما أقول التوبة". لم يكتف حليم بذلك، ففي العام نفسه غنى آخر لحن عاطفي للطويل، لتبدأ قطيعة ربما غلب عليها تحوّل في ذائقة الجمهور، أكثر منها جوانب شخصية.

هنا، عبّر رشدي عن امتعاضه؛ إذ اعتبر أن حليم يحاول أن يسرق نجاحه عبر لجوئه إلى الغناء الشعبي، وهو ليس لونه المعروف. لكن حليم عبّر عن قلق غايته استقطاب تلك الشرائح الجديدة التي ستحكم توجّهات الغناء الجديدة، وهو ما ستفرضه تداعيات أفول عصر منذ هزيمة 1967.

لم يكتف حليم بذلك، بل اندفع بكل كيانه نحو ألحان بليغ، وهو ما أكدته أغاني فيلمه الأخير: "أبي فوق الشجرة"، ليحظى بليغ بالنصيب الأكبر من أغاني الفيلم (أغنيتان)، بينما كان من نصيب عبد الوهاب والموجي ومنير مراد أغنية لكل منهم. ذلك أن الثيمات اللحنية الشعبية، والزخم الإيقاعي، إضافة إلى الجمل الراقصة وسمات الموال الشعبي، جميعها عناصر افتتح بها بليغ روح هذا العصر الجديد الذي ستسود فيه ألحانه. وهو الإطار الذي ربما أقنع أم كلثوم بغناء لحن باهت، مثل "حكم علينا الهوى".

سادت عناصر الغناء الشعبوي بمباركة رموز الغناء في مصر: أم كلثوم، وبصورة أكبر عبد الحليم. ومع النجاح المبهر لأغان مثل "سواح" و"زي الهوى"، أصبحت نماذج الغناء ذات زخم إيقاعي ومهجّنة بالشعبي. هنا كان دور بليغ، فثوريته الموسيقية جاءت عبر الإيقاعات التي منحها دوراً حيوياً ليس مسبوقاً، ليُمسي هو الملحّن شبه الأوحد لـ حليم خلال سنوات.

حتى أن الأغاني الوطنية التي كان بطلها كمال الطويل، استأثر بها بليغ الذي كان يصفه حليم بـ"أمل مصر". هل وصلت الموسيقى في مصر مرحلة عقم استدعت ظهور "أمل" لها؟ ربما منح بليغ سوق الغناء زخماً بتوجهه الشعبي، لكنه لم يكن منقذاً أو أملاً يمنع الغناء عن التدهور، بما أن الجمهور يحدد سيرورةً امتلك بليغ ناصيتها خلال عقدين.

ما فعله صاحب لحن "سوّاح" أنه قام بـ"مصرنة الغناء"، أي جعله أكثر محلية. وهو شكل ملائم لمرحلة سياسية أعلنت أفول الخطاب القومي. وكانت القاهرة بمكانتها كمركز فني، قادرة على نشر محليتها عربياً. روح التمرّد لدى بليغ، كانت إحيائية أكثر منها ثورية. شهد ذلك العصر صعود النزعات الإحيائية في مصر والعالم العربي على حساب أصوات تنوير أخفقت.

كرّست "مدّاح القمر" هذا الهجين البلدي المطور، الذي يتمثّل بالتفجر الإيقاعي المصاحب للمقدمة الموسيقية الطويلة، بجملها البسيطة والقصيرة. اتسمت كثير من ألحان بليغ الطويلة بتلك الاحتفالية الصاخبة.

ما حصل، أنه اختلفت شخصية الجمهور على المسرح؛ فهو يميل إلى التصفيق والصخب وربما الزعيق، مقارنة بجمهور سابق تشكّلت صلته بالموسيقى عبر الإصغاء. هل هو الوجه البلدي المقابل لصخب الروك آند رول والكونتري ميوزك في الغرب وأميركا؟

انضم بليغ حمدي للكونسرفتوار خلال الستينيات، من أجل تطوير معارفه الموسيقية، وتحديداً في التوزيع الأوركسترالي، وهناك تحدث المحاضر عن المؤلفين القوميين الخمسة في روسيا؛ أي الموسيقيين الذين نقبوا في الموسيقى القومية لبلادهم واستحضروها في ألحانهم الأوركسترالية. لم يستمر بليغ حمدي طويلاً في الكونسرفتوار، لكن الفكرة شجعته على التعمق في استحضار ثيمات الألحان الشعبية المصرية في ألحانه.

يمكن تقسيم مسار بليغ حمدي إلى مرحلتين: الأولى أقل إنتاجاً وأهم فنياً، والثانية على النقيض تماماً؛ أغزر إنتاجاً وأقل إبداعاً. أين يمكن وضع ألحان بليغ لوردة أمام روائعه الأولى لأم كلثوم، مثل "أنساك" و"لا ليلة ولا يوم"؟ أو رائعته لنجاة الصغيرة "أنا بستناك". أصبح بليغ مطلوباً في سوق الغناء، وبات معبود الجماهير، وكذلك من السهل التعرف إلى ألحانه، لتكرار خواصها، وأحياناً تشابه ثيماتها، بل لأنها استنفدت جماليتها. ومع الوقت، ستزيد مساحة النواح فيها، أو ما نسميه العاطفة المهذارة.

في كتاب "رحلتي: الأوراق الخاصة جداً" (إعداد فاروق جويدة)، يصف عبد الوهاب بليغ حمدي بأنه "ملحن شارع وليس نخبة". وفي وصف قاسٍ قال إنه "ومضات من ألماس مركبة على الصفيح". يمكن ملاحظة ذلك في كثير من ألحانه؛ أي وجود ومضات لحنية مبهرة في أعمال، تصطف إلى جانبها جمل لحنية عادية، وربما باهتة.

لعل شخصية بليغ ساهمت في قصر عمر موهبته العالية؛ الفنان المخدّر بنشوة النجاح من دون حذر، ليُصاب مع الوقت بالاسترخاء والنضوب. وفي حالة صاحب لحن "موعود" كانت الخديعة مرتبطة بجمهور ظل يبجله؛ فهو قادم من زمن آخر، زمن أبوي، مُعمّداً بالتلحين لأهم الأصوات الغنائية. لكن، كلّما اتسع الجمهور انخفضت معايير الفن.

منذ نهاية الستينيات، ظهرت شخصية جمهور جديد يميل للهرج، يتضح ذلك في تسجيلات الحفلات الغنائية لأم كلثوم وعبد الحليم وآخرين. ظهرت، مثلاً، تقليعة "عظمة على عظمة" التي يرددها أحد الحضور ثلاث مرات. هكذا أصبح الغناء مجاوراً للتصفيق والزعيق والتصفير، على حساب الإصغاء.

هل لهذا السبب قدّم عبد الحليم أغنيته الجديدة "قارئة الفنجان"، مؤكداً أنها بحاجة للإصغاء قليلاً؟ أي باعتبارها تنتمي لأجناس غنائية عميقة تتطلب الإنصات، مع أنها أيضا انتمت بصورة ما لذلك العصر. فمشاجرته مع الجمهور لم تكن كما الرواية الشائعة، لقلقه من وجود جمهور مندس يحاول إفساد حفلته. إنه إنكار مُعلن لثقافة جمهور لم تعد الموسيقى تعني له الإنصات.

ولن نذهب بعيداً في التأويل، لنقول إنه تلميح مُبطن لأجناس بليغ الغنائية وإنه لم يعد أمل الموسيقى؛ إذ ساءت علاقتهما تلك الفترة. لكن الفنان المحبوب لم يكن يستطيع السيطرة على جمهور أصبح صراخه وضجيجه أثناء الغناء، إحدى العادات. هذا الجمهور الذي سيعلن عن عصر بليغ حمدي؛ أو ما يمكن أن يصبح خلطة من الجيد والرديء، لتعلن موت نهضة الموسيقى العربية، بعد سنوات من احتضارها.

المساهمون