الجسر العملاق: ممر البازلت والأساطير في إيرلندا الشمالية

15 يناير 2018
يعتبر أكثر المواقع شعبية في إيرلندا الشمالية (العربي الجديد)
+ الخط -
تزامنت زيارة "الجسر العملاق" (The Giant’s Caudeway)، الشهير في إيرلندا الشمالية مع عاصفة ضربت المنطقة. وبما أنّ للموقع حكايات رسمها خيال العديد من الأجيال، عزّز ذلك الجوّ الماطر والسماء المكفهرة، من طابع الأسطورة في داخلي. إذ أردت أن أعيش أجواء يغيب عنها التفسير العلمي لهذه المنطقة، التي تتألّف ممّا يقارب الأربعين ألفاً من أعمدة البازلت المتداخلة والناجمة عن ثوران بركاني قديم.
"كيف تجرأتم على القدوم إلى هنا في هذا الجوّ"؟ علّق أحد العاملين في ذلك المكان. بيد أنّنا، كنّا قد ارتدينا ما استطاعت أجسامنا حمله من معاطف. كما تحزّمنا لنخوض هذه الجولة الأشبه بمغامرة، في مقاطعة أنتريم على الساحل الشرقي لإيرلندا الشمالية، التي تبعد ثلاثة أميال تقريباً عن شرق مدينة بوشميلز.
كنت أجهل تماماً أي معلومة عن المكان، على الرّغم من الإعلان عنه بوصفه أحد مواقع التراث العالمي من قبل منظّمة "يونسكو" عام 1986، وإدراجه كمحمية طبيعية وطنية عام 1987 من قبل وزارة البيئة في إيرلندا الشمالية. كذلك، اختير ممر العمالقة ضمن استطلاع رأي أجرته راديو تايمز عام 2005، رابع أعظم العجائب الطبيعية في المملكة المتحدة.
وبما أنّ الأساطير تجذب أصحاب الخيال الواسع أو الهاربين من الواقع، رحت أتعمّق فيها قبل الغوص في التحليل العلمي. تقول الأسطورة إنّ المحارب الإيرلندي فين ماكول (Finn MacCool)، بنى ممراً يمتد إلى اسكتلندا. وتروي أنّ العملاق الاسكتلندي، بيناندونر، كان قد أعلن تحدّيه لـ فين. وكان الأوّل أضخم كثيراً من الثاني، ما دفع فين إلى التفكير في مخرج من هذه المواجهة. وجاء خلاصه على يد زوجته التي اقترحت فكرة، تنكّره بزي طفل وتغطيته في مهد. وعندما عبر بيناندور الجسر بحثاً عنه، أخبرته أوناج أنّ فين ذهب للتحطيب، وسيعود قريباً، بعد أن جعلته يعتقد أنّ من في المهد هو ابن فين. حين رأى حجم الطفل، فرّ مرتعباً من المنزل وحطّم الممر أو الجسر خلفه حتى لا يلحق به "فين ماكول" العملاق.
تتوافق هذه الأسطورة مع التاريخ الجيولوجي في كهف فينغال في جزيرة اسكتلندا في ستافا، حيث تتواجد أعمدة بازلت متطابقة، ومن الممكن أن تكون القصة تأثّرت بذلك.
أمّا التفسير العلمي، فيقول إنّه منذ حوالي 50 إلى 60 مليون عام، تعرّضت منطقة أنتريم لنشاط بركاني مكثّف، وتشكّلت هضبة واسعة من الحمم. ونظراً لأنّ الحمم تعرّضت إلى البرودة بشكل سريع، تسبّبت بانكماش حراري، نتج عنه تشقّقات أسفرت عن تكوّن بنية تشبه الأعمدة، التي تشقّقت بدورها في اتجاه أفقي مخلّفة "رقائق" منها.
تمّ الإعلان عن اكتشاف "الجسر العملاق"، في العالم بأسره عام 1693، بعد أن اكتشفه الأسقف ديري (Derry)، في العام السابق. وحظي الموقع باهتمام دولي حين رسمت فنانة دبلن، سوزانا دروري، لوحات مائية عنه عام 1743، وفي عام 1765، ظهرت مقدّمة حول المكان في المجلّد 12 من الموسوعة الفرنسية.
يعتبر الجسر العملاق أو ما يعرف أحياناً بممر العمالقة مركزا سياحياً هامّاً يجذب السائحين من جميع أنحاء البلاد وخارجها، حيث يتوافد الناس إليه حتى في الأجواء الماطرة كي لا يضيّعوا فرصة زيارته مع قدومهم إلى إيرلندا الشمالية. وتنطوي الجولة على السير في ممرات ساحلية جبلية ضيقة لمدة لا تقل عن الـ 15 دقيقة باتجاه الأعمدة والبحر أو صعود حافلة صغيرة توصلنا إلى الموقع.
يختار معظم زوّار ممر العمالقة السير في الطبيعة الساحرة لاكتشاف معالمه والغموض الذي يلفه من اكتشافات علمية وأساطير. كما يعتبر موقع التراث العالمي الوحيد في إيرلندا.
يمكن تسلّق الحجارة القديمة التي تكونت في المكان، وكأنّها درجات مرصوفة بإتقان، حتى يخيّل إلينا أنّها لم تحدث نتيجة ثوران بركاني بل صمّمت على أيدي أفضل المهندسين. ويتميّز الموقع الذي تعرّض بعض هياكله إلى ملايين السنين من تأثيرات الطقس، بوجود تشكلات حجرية نادرة، مثل حذاء العملاق العالي الساق والأعمدة الحمراء منخفضة الارتفاع، وعيون العمالقة التي تكوّنت بسبب صخور البازلت وغيرها ممّا خلّفته آثار الأسطورة على خيال الناس مثل القنبلة العملاقة ومدخنة المداخن وبوابة العملاق.
وتشكل قمم الأعمدة أحجاراً متدرّجة تبدأ من السفح المنحدر وتختفي تحت سطح البحر. وتتخذ معظم الأعمدة شكل سداسي الاضلاع. ويبلغ طول أعلى الأعمدة حوالي 12 متراً.
تعود ملكية ممر العمالقة اليوم وإدارته إلى منظمة الثقة الوطنية (National Trust)، ويعد هذا الموقع السياحي الأكثر جذباً وشعبية في إيرلندا الشمالية.




دلالات
المساهمون