لماذا تغيب السينما العربية؟

10 نوفمبر 2016
كارلوس شاهين في لقطة من "الوادي" للبناني غسان سلهب
+ الخط -
لن تتوقّف بيروت عن إيجاد متسع من الوقت والمساحة الجغرافية لتنظيم مهرجانات سينمائية، تختلف مواضيعها وأنماطها وأهدافها، وتلتقي، كلّها، عند فكرة أساسية: تقديم أكبر قدر ممكن من الأفلام حديثة الإنتاج، أو قديمه. الاستعدادات والتكريمات جانبٌ فعّال، يضع المهتمّ أمام كلاسيكيات وذاكرة وتاريخ. الجديد، هو أيضاً، فعّالٌ في تحريك المشهد السينمائيّ اللبنانيّ. 

لن تتوقّف بيروت عن إتاحة المجال أمام راغبين في متابعة أحوال الفن السابع، لمعاينة حراكٍ سينمائي دولي، ينقصه اهتمامٌ أكبر وأكثر جدية بالسينما العربية، رغم أن "أيام بيروت السينمائية" ـ التي تُنظّمها "جمعية بيروت دي سي"، المعنية بالسينما العربية المستقلّة تحديداً، مرة واحدة كل عامين ـ مختصّة بها. أسباب كثيرة تؤدّي إلى تنظيم هذا المهرجان، أو تلك التظاهرة. الصفات، هنا، مختلطة ومتداخلة. يُضاف إليها "أسبوع" هذه السينما أو ذاك السينمائيّ. يُعلن البعض عن إقامة مهرجان سينمائيّ، يكون، في الواقع، تظاهرة، أو أسبوعاً احتفاليّاً، أو استعادة تكريمية.

بعيداً عن المعاني والصفات، تُطرح أسئلة عديدة، يُمكنها أن تبدأ بالصفات الموضوعة للنشاطات، لكنها، حتماً، تنتقل إلى محاولة فهم مدى قدرة هذه النشاطات على تحقيق مبتغاها. أسئلة متعلّقة، أيضاً، بنوعية الأفلام المختارة، وبكيفية اختيارها، وبآليات تشكيل لجان التحكيم، وبغيرها من أساسيات تنظيم كلّ نشاط سينمائيّ. أسئلة مفتوحة، أيضاً، على الانبهار بالغربيّ، في مقابل ما يُشبه الانكفاء عن كلّ اهتمامٍ ممكن بالسينما العربية. "أيام بيروت السينمائية" تتحمّل مسؤولية سينمائية وثقافية وفنية في هذا المجال، وتمنح المهتمّين فرصة الاطّلاع على كل جديد عربي ممكن، لكن مرة واحدة كل عامين. فهل يرتبط هذا بندرة الأفلام العربية الجيدة، فقط؟

السينما العربية، أقلّه في الأعوام العشرين المنصرمة، تمتلك حيوية إبداعية لافتة للانتباه، وتُنتج عدداً لا بأس به من العناوين المميزة بجمالياتها المختلفة. منخرطةٌ هي في أعماق الحدث العربي، في السياسة والاجتماع والأمن المتنوّع، كما في شؤون الذات والذاكرة والراهن. تُقدِّم أعمالاً تُبهر العين والقلب والعقل والروح، وتحثّ على التأمّل في أحوالٍ عامة وذاتية، وتدعو إلى التنبّه إلى مختلف المفردات المعمول بها لإنجازها. السينما العربية الراهنة تتفوّق، أحياناً، على نفسها، بمثابرتها على التنقيب في كلّ جديد فني أو بصري أو تقني ممكن، لـ "استغلاله" في مقاربة البيئة والمحيط والذاكرة، وأسئلة الحياة والقدر والهوية والانتماء والاغتراب، وهموم الفرد وهواجسه ومخاوفه وأحلامه وانكساراته ومِحَنه. السينما العربية الراهنة، التي يطغى الحضور الشبابيّ فيها، جمالياً وفنياً وثقافياً ودرامياً، تستمرّ في معاندة التحدّيات القاسية كلّها، الداخلية والخارجية، التي تحاول أن تكون "حجر عثرة" أمامها، من دون أن تتوصّل إلى منعها من إنتاج البديع والمستفزِّ والصادم، إيجابياً.

والتحديات منسحبة على التمويل والإنتاج، وعلى التوزيع والعروض "المحلية"، أي تلك الخاصّة بجغرافيّة المكان المولودة فيه هذه الأفلام، أو التي تتناولها وتروي فصولاً من حكاياتها. منسحبةٌ أيضاً على اللهجات، وصعوبة وصولها إلى مشاهدين لا يعرفونها، ولا يفهمونها، ولا يُتقنونها. كما أن الرقابات المختلفة تُشكّل تحدّيات أقسى، وتحول دون تواصل مطلوب بين المشاهدين العرب والأفلام العربية.

هذا كلّه لن يمنع من شيوع نتاجٍ سينمائي عربيّ يواجه ويُفكِّك ويكشف، أو يقول الخلل ويُشير إلى البهتان ويتصدّى للعفن. الذات أساسية في صنيع عربي، يُراد له اهتماماً أكبر بالفرد نفسه، وبمحيطه وعلاقاته وأسئلته الخاصّة. المسائل العامة تحضر عبر هذا الفرد أيضاً، ومحيطه وعلاقاته وأسئلته الخاصّة. لذا، تبدو السينما العربية الراهنة نضرة وناضجة وحيوية، إنتاجاً واشتغالاً وجماليات، لكنها تقع ضحية الحواجز المرتفعة بينها وبين المشاهدين العرب. وبفضل بعض المهرجانات المُقامة في الجغرافيا العربية، يتمكّن المهتمون من مشاهدة ما يتيّسر لهم، هنا وهناك.

لكن، هل يكفي مهرجانٌ واحدٌ، يُقام في بيروت مرة واحدة كل عامين، كي يُشاهد المهتمون صنيعاً سينمائياً عربياً جديداً وتجديدياً؟ ما العائق الذي يحول دون إيجاد مساحة أوسع للفيلم العربي الراهن، بلغاته ولهجاته وتقنياته وأسئلته وهواجسه وارتباكاته، في هذه المدينة؟ لماذا لا يتذكّر صانعو المهرجانات حالياً ـ الذين يجتهدون لتقديم الأفضل والأحسن في النتاج السينمائي الدولي، وهذا مهم وضروري ـ تجربة ديمة الجندي مثلاً، مُنظِّمة "مهرجان السينما المغاربية"، الناجح ـ نقدياً ومُشاهدةً، وإنْ يعجز عن بلوغ نجاح تجاريّ يحرِّض المموّلين على دعمه؟
هذا ما تحتاج بيروت إليه، وإنْ بقيت "أيام بيروت السينمائية" المناسبة الوحيدة لمتابعة بعض النتاج العربيّ الجديد، في حين أن "مهرجان الفيلم اللبناني" يتكفّل بتقديم نتاجات لبنانية.




المساهمون