كما سيؤدي السد الإثيوبي إلى حدوث قفزة في نسب الفقر والجريمة والطلاق والهجرة، وغيرها من الآثار الاجتماعية الخطيرة في مصر، وربما يدخل السد البلاد في مجاعة شديدة إذا أصرت إثيوبيا على ملء الخزان في فترة ثلاث سنوات فقط بدلا من عشر سنوات، خاصة مع استمرار الزيادة السكانية في مصر، وتراجع منسوب مياه النيل الذي تعتمد عليه كل الأنشطة التجارية والزراعية والصناعية والخدمية، كما يعتمد المواطن على مياه النيل كمياه للشرب.
لكن لم يلتفت الكثيرون إلى مخاطر سد النهضة على أمن مصر الاقتصادي التي ربما هي أكبر وأعمق من أي تقديرات حالية، وحسب السيناريو الإثيوبي فإن البدء في ملء الخزان بداية من الشهر المقبل ولمدة ثلاث سنوات، وعدم مراعاة فترات الجفاف، يعني أن مصر مقبلة على مرحلة اقتصادية غاية في الصعوبة.
مرحلة من أبرز ملامحها تعميق الأزمة المالية والاقتصادية والمعيشية الحالية، وحدوث زيادة كبيرة في نسب البطالة، لسببين الأول فقدان 1.3 مليون فرصة عمل على الأقل في قطاعي الزراعة والصيد بسبب شح المياه الشديد، وهنا تحتاج الدولة إلى 600 مليار جنيه لتوفير فرص عمل بديلة لهؤلاء، وهو مبلغ لا تستطيع الموازنة العامة تدبيره في ظل توجيه الجزء الأكبر من الإيرادات العامة لسداد ديون خارجية ومحلية.
والسبب الثاني هي أن سد النهضة سيؤدي كذلك إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل بنسبة تصل إلى 38% وربما أكثر مع تأثر القطاعات الاقتصادية المرتبطة بالزراعة من صناعة وسياحة وتجارة وبناء وتشييد ونقل وشحن وتصدير واستثمارات وتنمية وغيرها.
كما سيخلق سد النهضة واقعا اقتصاديا جديدا في مصر، إذ سيؤدي إلى إضافة ضغوط شديدة على سوق الصرف الأجنبي وقيمة الجنيه مقابل الدولار، فالسدّ سيؤدي مثلا إلى اقتطاع نحو 25 مليار متر مكعب من حصة البلاد المائية، وهو ما سيؤدي إلى تبوير نحو خمسة ملايين فدان، ووقف مشروعات توسيع الرقعة الزراعية واستصلاح الأراضي الصحراوية.
والنتيجة توسع غير مسبوق في استيراد المنتجات الغذائية من قمح وأرز وسكر وزيوت سلع تموينية أخرى، خاصة مع توقف زراعة السلع المستهلكة للمياه كالأرز، وهو ما يفاقم الوضع الغذائي الحالي، خاصة أن مصر تستورد نحو 60% من احتياجاتها الغذائية وتعد أكبر مستورد للقمح في العالم.
كما سيؤثر سد النهضة بشدة على موارد البلاد من النقد الأجنبي، فشحّ المياه سيؤثر بشكل كبير على الإنتاج الزراعي، وهو ما سيؤثر سلبا على قطاع الصناعات الغذائية، كما أن تراجع الإنتاج الزراعي بسبب عجز كميات المياه المتاحة يؤثر سلبا على صادرات البلاد الخارجية التي تعد ثاني أكبر مصدر للنقد الأجنبي حيث قدرت قيمتها بنحو 25.5 مليار دولار في 2019.
ومن الآثار المباشرة لسد النهضة كذلك زيادة أسعار السلع، خاصة الغذائية، وزيادة أسعار الكهرباء، ولا سيما أنه سيؤثر على الطاقة الكهربائية المتولدة من السد العالي، وقد تلجأ مصر إلى شراء الكهرباء من إثيوبيا في إطار تسوية الأزمة المتعلقة بالسد وحسم النقاط المعلقة ومنها مدة فترة ملء السد لتصل إلى عشر سنوات بدلا من ثلاث أو أربع سنوات كما تقترح إثيوبيا.
كما قد تضغط أطراف دولية على مصر لشراء مياه النيل خاصة من قبل بعض الممولين كالبنك الدولي، وهو ما يمثل عبئا إضافيا على البلاد.
النتيجة المباشرة لسد النهضة هي تعميق الأزمة الاقتصادية الحالية، ودفع البلاد نحو زيادة الاقتراض الخارجي لتدبير مئات المليارات من الجنيهات لتمويل مشروعات تحلية مياه البحرين الأبيض والمتوسط وتعويض نقص مياه نهر النيل، واستيراد المزيد من السلع الزراعية، وتدبير فرص عمل، ومع هذا التوسع ستشهد الموازنة العامة مزيداً من العجز، خاصة مع الضغوطات المالية الكبيرة الناتجة عن السد.
كما أن سد النهضة سيؤدي إلى أدخال تعديلات في الخريطة الاستثمارية للبلاد، فمشروعات تحلية المياه وتبطين وصيانة الترع قد تسبق مشروعات خدمية أخرى تتعلق بالصحة والتعليم والبنية التحتية.
ولن أتحدث هنا عن الأعباء الأخرى على المواطن من نقص مياه الشرب، ولا عن عدم قدرة ملايين المصريين على شراء المياه المعدنية كما يحدث في دول الخليج والعديد من دول العالم، بسبب ضعف القدرة الشرائية للمواطن، وأن دخله لا يتحمل مثل هذه الأمور التي يصنفها على أنها نوع من الرفاهية.
إزاء هذه التطورات الخطيرة لن تقف مصر مكتوفة اليد تجاه إصرار إثيوبيا على الإضرار بحقوق مصر المائية وتعطيش المصريين وتدمير قطاعهم الزراعي وتهديد النسيج الاجتماعي والاقتصاد القومي، لكن هل ستلجأ مصر إلى عمل عسكري لحسم النزاع القائم؟
الأمر مستبعد، من وجهة نظري، لعدة أسباب منها ما يرتبط بخريطة ممولي سد النهضة الذين تربطهم علاقات قوية بالنظام الحاكم في مصر خاصة الصين وإيطاليا والإمارات والبنك الدولي وغيرها.