حصار قطر... ذكريات اليوم الأول

05 يونيو 2018
فضائيات دول الحصار أطلقت أكاذيب ضد قطر (العربي الجديد)
+ الخط -

5 يونيو 2017، يوم لا ينسى أو يمحى من الذاكرة بالنسبة لي، ذلك لأنه في هذا اليوم فقدت الثقة في الإعلام العربي، مصداقية وموضوعية وحياداً، وأدركت أن ما كنت أدرسه في كلية الإعلام بجامعة القاهرة ما هو إلا سراب لا وجود له على أرض الواقع.

في هذا اليوم استيقظت مبكرا على صوت تليفون من مصر، وكان سؤال المتصل سريعا وبلا مقدمات أو تحية الصباح: أين أنت، هل اندلعت الحرب عندكم؟ هل غزت شوارع الدوحة دبابات السعودية وبوارج الإمارات وطائرات البحرين العسكرية؟ هل تم عزل الأمير وتنصيب سلطة جديدة للبلاد؟

قلت للمتصل، وقد تخيلت أنه يمزح مزاحا ثقيلاً: عن أي حرب تتحدث، وواصلت أنا من جانبي المزاح قائلا: هل فعلتها إيران وغزت منطقة الخليج؟ أم أن داعش احتلت دول الخليج؟ أم أن الأميركيين طمعوا في ثروة دول الخليج النفطية، بعد أن طالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب حكامها بسداد كلفة بقائهم في مناصبهم.

فقال: لا تمزح، لقد تم حصار قطر براً وبحراً وجواً في مشهد لم يتكرر في التاريخ الحديث، أغلقوا عليها كل المنافذ، لن تستطيع قطر استيراد أغذية وسلعا من الخارج، ولن تستطيع كذلك تصدير الغاز والنفط.

فركت عيني غير مصدق لما أسمعه، ما هذا الذي أسمعه بالضبط، لماذا هذا "الهزار" الثقيل على الصبح، سارعت نحو التلفاز، فوجدت أن العنوان الأول والأبرز بكل القنوات العربية والأجنبية هو فرض 4 دول عربية حصارا شاملاً على دولة قطر، ومن هذا العنوان تفرعت عناوين أخرى منها، دول الحصار تتهم الدوحة بتمويل الإرهاب، الدوحة باتت مرتعا لحزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني وغيره من الجماعات المسلحة الإرهابية خاصة القادمة من إيران.

يا إلهي ماذا أسمع بالضبط، وما هذه الأكاذيب، هل أنا أعيش في دولة أخرى، أين قوات حزب الله التي زعموا أنها تحرس الديوان الأميري الذي أمر عليه كل يوم وأنا عائد لسكني فلا أجد حوله شرطي واحد، فما بالك بمزاعم وجود قوات أجنبية حوله.

ارتديت ملابسي بسرعة ونزلت الشارع متجها نحو العمل، وبينما أنا في منتصف الطريق تلقيت مكالمة ثانية من أحد أقاربي، لكنها كانت أكثر حدة حيث سألني المتصل بدون حتى أن يلقي علي السلام: أين أنت الآن؟ لفت نظري تركيزه على كلمة الآن، فقلت له: في الشارع أتجه لعملي.

سأل بسرعة: كيف تنزل الشارع وتغامر بحياتك، وقبل أن أتفوه بكلمة واحدة واصل كلامه: أنت على طول متهور.. ألا تدرك حجم الخطر الذي يحيط بك، أرجع بسرعة للبيت وأحضر جواز السفر واتجه فوراً نحو المطار.

قلت له: ولماذا كل هذا الخوف؟ هل نحن في حالة حرب، وأنا لا أعرف، أو أنني غير مدرك لما حولي.

قلت له: الحرب فقط على الفضائيات وفي مانشيتات الصحف المزيفة، أما شوارع الدوحة فهادئة، الكل يتجه نحو عمله كالعادة، لا جديد يلفت الانتباه. 
 


وما إن سرت عدة أمتار بالسيارة حتى تلقيت اتصالا ثالثاً، المتصل دخل مباشرة في المفيد وسألني بسرعة: أين أنت؟ وقبل أن أجيب، سأل: "ألم يتم إلقاء القبض على الصحافيين؟ المظاهرات تعم شوارع قطر متجهة نحو الديوان الأميرى لعزل الأمير".

قلت له: يا رجل أنت تحدثني عن دولة أخرى لا عن دولة قطر، ورحت أسرد له الهدوء الذي يسود الشارع، وأن الكل منهمك في عمله.

فقال لي: لا تكابر، المظاهرات عارمة وتغطي كورنيش الدوحة والفضائيات تنقلها مباشرة، حشود غفيرة ثائرة، والناس غاضبة.

والملفت أن هذا الشخص كان يتحدث معي وأنا أسير بسيارتي على كورنيش الدوحة، وعلى بعد مئات الأمتار من مقار الديوان الأميري والحكومة ومعظم الوزارات والبنك المركزي وسوق واقف وديوان المحاسبة وغيرها.

فركت عيني مرة أخرى غير مصدق لما أسمع، ونظرت حولي، فلم أجد حركة غير طبيعية، ولم أر عربات شرطة تلاحق الثوار كما يقول محدثي، بل رأيت أناسا يسيرون بسياراتهم في الشارع متجهين إلى أعمالهم.

ذهبت إلى عملي وقبل أن أجلس، تلقيت اتصالا من صديق مقيم في الدوحة: هل صحيح أن الحكومة القطرية صادرت الأموال في البنوك، وأن الريال القطري انهار أمام الدولار، وأنه لا توجد سيولة في بنوك قطر، وأن القطاع المصرفي انهار بالكامل، وأنه تم التحفظ على احتياطيات قطر في الخارج حتى يتم تسليمها للأمير الجديد والحكومة التي سيتم اختيارها الآن.

قلت له ما هذا الهراء، أين سمعت هذا الكلام المضحك، فقال في فضائيات الإمارات والسعودية وأنه يتردد منذ الصباح الباكر، فعدت وقلت له: أولا الريال مربوط بالدولار، وبالتالي فإن حركته صعبة جدا، كما أن قطر لديها احتياطيات تفوق 335 مليار دولار ومن السهل الدفاع عن عملتها في حال حدوث أية مضاربات عليها، كما أن واردات قطر ليست بالكثيرة لتشكل ضغطا على الاحتياطي فهي تدور حول ملياري دولار شهريا.

جلست على المكتب، فتحت التلفزيون وانتقلت من قناة لأخرى، وشاهدت هذه العناوين التي كانت تبثها فضائيات دول الحصار تباعا: حركة نزوح أموال كبيرة من بنوك قطر، طوابير بالكيلومترات أمام المصارف القطرية لسحب الأموال منها، المستثمرون الأجانب ينسحبون من الأسواق القطرية، خسائر بمليارات الدولارت يتكبدها الاقتصاد القطري، انهيارات في الريال القطري، تهاوي بورصة قطر، نفاد السلع والمنتجات من محلات قطر، القطريون يتعرضون لأكبر مجاعة في تاريخهم، قطر تستنجد بالعالم لتزويدها بالغذاء ولا أحد يمد يد العون لها بسبب "دعمها الإرهاب".


تركت المكتب، لأعاين ما سمعت على الطبيعة، ذهبت لأحد البنوك الأجنبية، فقلت للموظف: أريد تحويل كل أموالي لديكم للخارج، فقال: حالا يا أفندم، أعطنا رقم الحساب الذي ستقوم بالتحويل إليه، ارتبكت لأنني لست عميلا أصلا لدى البنك، كنت فقط أردت أن أخوض التجربة بنفسي نيابة عن العميل.

ذهبت إلى بنك آخر أتعامل معه، وطلبت من الموظف نفس ما طلبته من البنك الأجنبي، فقال: على الرحب والسعة، قلت له: ألا توجد قيود من البنك المركزي على تحويل الأموال للخارج، فقال لا، لماذا أصلا القيود ونحن لدينا سيولة ضخمة من النقد الأجنبي، قد نعاني لساعات من نقص في السيولة بسبب زيادة السحب، خاصة من العملاء المتأثرين نفسيا بقرار الحصار، لكن البنك المركزي يزودنا بما نحتاجه طوال اليوم.

خرجت من البنك وذهبت لعدد من المولات التجارية، فوجدت أن السلع تملأ الأرفف، فقط لاحظت أن هناك اختفاء للسلع السعودية والإماراتية لأنه تم إغلاق الحدود البرية والبحرية.

غادرت المحال، وأنا في طريقي إلى المنزل تلقيت اتصالاً من صديق عزيز: وسألني سؤالا لم أتوقعه: هل تناولت طعاما اليوم؟ فقلت له: نعم، منذ ساعة تناولت إفطاري مع أذان المغرب حيث كنا في شهر رمضان المبارك وذلك في أحد مطاعم سوق واقف المعروف، عاد ليسأل: هل لديك طعام في الثلاجة؟ فقلت له: نعم ولدي أيضا زبادي وحليب.

عدت للمنزل، نمت نوما عميقا، بعد أن أدركت أن الإعلام العربي ماتت مصداقيته، وكتبت على صفحتي على فيسبوك مطمئنا كل الأصدقاء "لدي زبادي وحليب، فلا تخافوا علي".

المساهمون