جفاف دجلة... حقول تموت عطشاً وسكان يهجرون قراهم

28 نوفمبر 2017
انخفاض المياه في النهر يقلق المزارعين(على السعدي/ فرانس برس)
+ الخط -
تعاني مدن وبلدات في جنوب العراق للشهر الثاني على التوالي انخفاضاً حاداً في منسوب نهر دجلة وعدد كبير من المسطحات المائية، التي تمثل خزيناً طبيعياً لملايين الهكتارات الزراعية، ما ينذر بكارثة اقتصادية وبيئية، بحسب مختصين، بينما تعزو السلطات ذلك إلى مشاريع السدود التركية والإيرانية على منابع النهر، الأمر الذي أسهم في تقليص حصة العراق من المياه بواقع 40% عن السابق.
وأظهرت صور من محافظة ميسان جنوب العراق جفاف أجزاء واسعة من مجرى النهر وظهور جزر وسطه في مشهد يوضح انخفاض مناسيب المياه بشكل كبير.
وقال محافظ ميسان، علي دواي، في بيان له يوم الأحد الماضي إن "شح المياه يرجع إلى أسباب عديدة من بينها إقامة دول أعالي النهر (تركيا وإيران) مشاريع للسدود وعدم إطلاق الحصة المقررة للعراق من المياه، والتجاوزات الحاصلة على الحصة المائية من قبل المحافظات المجاورة كذلك التجاوزات في البحيرات وانحباس الأمطار".
وأشار دواي إلى انخفاض موارد المياه في المحافظة إلى نحو النصف، موضحاً أن موارد نهر دجلة إلى ميسان والتي تؤمن الخطط الزراعية وحصة وزارة النفط والمعامل الصناعية ومياه الشرب تبلغ 220 متراً مكعباً/ ثانية، بينما تراجعت إلى حالياً إلى 120 متراً مكعباً.

زراعات بدون ري
ويهدد تراجع مستوى المياه في دجلة بالقضاء على الزراعة وتربية الماشية في عدة محافظات، ما يجعل منه خطراً يستهدف الاقتصاد المحلي، ويتسبب في رفع نسبة البطالة، فضلاً عن كونه تهديداً بيئياً، فضلاً عن اعتماد العراقيين على النهر في مياه الشرب الواصلة إلى منازلهم.
وباتت مياه الشرب مهددة بسبب انخفاض المياه وعدم وصول الأنابيب إلى مستوى ماء النهر، الذي بات ارتفاعه أقل من 30 سم بالوقت الذي يبلغ مستوى أنابيب الشبكة نصف متر داخل وسط النهر.
ومؤخراً، تظاهر فلاحون من عدة محافظات جنوبية مطالبين الحكومات المحلية بإيجاد حلّ لشح المياه التي ستقضي على أراضيهم الزراعية وإحالتها إلى أراضٍ جرداء، فيما راح فلاحون يحولون أراضيهم لمشاريع أخرى بعد أن قُطعت عنها المياه.
يقول كاظم الشمري من ميسان في مقابلة مع "العربي الجديد"، إنه خسر أرضه التي كانت تمتد على مساحة 100 دونم (الدونم يعادل ألف متر)، بعد أن أصابها البوار، بينما كانت عامرة من قبل بمحاصيل موسمية.
يضيف الشمري أن "الخسارة الأكبر ليست لي بل للعراق، أنا وآلاف غيري ممن نملك مساحات زراعية كبيرة تركنا الزراعة، وهناك آخرون يتجهون لنفس المسلك، فلا طائل من أن نظل نعمل في هذا المجال سوى المزيد من الخسائر".

ويتابع: "بعض المزارعين نجحوا في الاعتماد على الآبار في زراعة بعض الأصناف من المزروعات، لكنهم أيضاً يصطدمون بأسعار السوق، علينا أن ننافس المحاصيل الزراعية المستوردة من ناحية السعر، وهذا صعب للغاية، تكلفة الزراعة مرتفعة وبعض المحاصيل لن يجني الفلاح من زراعتها سوى الخسائر إن جرى بيعها بنفس أسعار المحاصيل المستوردة".
ليس من سبب لترك الشمري الزراعة، بحسب قوله، سوى انقطاع المياه عن الوصول إلى المزارع، لكنه وغيره من المزارعين سينضمون إلى شريحة العاطلين عن العمل.
ويقول: "ليس باليد حيلة، أن نكون عاطلين عن العمل خير من أن نزرع حقولنا ثم نخسر أموالنا بسبب عدم وصول المياه إليها".
على مساحات واسعة في جنوبي محافظة الناصرية (300 كيلومتر جنوب العاصمة بغداد)، تنتشر قرى بعضها تركها سكانها بحثاً عن المياه، وهم بطبيعة حياتهم يعتمدون على الزراعة وتربية الماشية.

هجرة القرى
مزهر كاظم، بقي في القرية التي يسكنها مع مجموعة من أفراد قبيلته في محافظة ميسان، يرعى بعض مصالح أشقائه فيها. ويقول لـ"العربي الجديد" إن إخوته رحلوا بالماشية إلى قرى تعتمد الآبار في سقي مزروعاتها ومواشيها، وفيها يستطيع أشقاؤه توفير المياه والغذاء للماشية.
ويضيف: "لقد رحلوا مع عوائلهم، عشرات العوائل من قريتنا والقرى المجاورة فعلوا الشيء نفسه، لم يعد بمقدورنا توفير المياه من خلال الآبار التي نعتمد عليها سوى للاستخدام الشخصي، في قريتنا حفرنا العديد من الآبار وأغلبها غير صالحة للاستخدام البشري والحيواني، تكون مالحة أو ذات رائحة كريهة".
يشير كاظم إلى أنهم منذ أكثر من سبعين عاماً يسكنون في تلك القرى التي تعتمد على مجرى صغير للنهر هو أحد مشاريع الري القديمة، وكان المصدر الوحيد لسكان القرى والمزارع والماشية، لكنه جفّ منذ أكثر من عامين.
بعض الأراضي الزراعية التي قُطعت عنها المياه، وكانت ترفد الأسواق العراقية بالمحاصيل الزراعية، وتساهم في دعم الإنتاج الحيواني، من خلال تربية الماشية، وتوفير العلف للحيوانات، فضلاً عن فوائدها البيئية المهمة، استغلها أصحابها في مشاريع أخرى، جردتها من خصوصيتها الزراعية كمناطق داعمة للبيئة.
يقول جاسم عبد الحسن، الذي غيّر منطقة سكنه من محافظة الكوت الواقعة على بعد 180 كيلومتراً جنوب بغداد، ليهاجر إلى خارج محافظته، بعد أن باع أرضه الزراعية، لرجل أعمال حولها إلى مخازن ومعمل لإنتاج الطابوق (الطوب).
لم يظهر عبد الحسن ندمه على ما فعل، ويقول إنه استغل المبلغ الكبير الذي جناه من بيع أرضه في شراء سكن ببغداد، والبدء بمشروع عمل جديد.



ويضيف في حديث لـ"العربي الجديد": "هذه الخطوة ستسمح لأولادي في إكمال دراستهم الجامعية، لقد كانوا منشغلين في الزراعة، أيضاً افتتحت مشروعاً جيداً يختص بتجارة المواد الكهربائية، وانتهت معاناتي مع الزراعة وشح المياه".
لكن ما يؤلم عبد الحسن، بحسب قوله، إن "أرضي تحولت إلى مشاريع غير زراعية، بل تحولت إلى مكان يضر البيئة بعد أن كانت تساعد في تحسين البيئة".
أسباب جفاف الأنهار، بحسب المزارعين والمختصين، عديدة، وتتعلق بالفساد وتقليل حصص المياه الداخلة إلى العراق من بلد المصب، والأوضاع الأمنية التي مر بها العراق.

الحروب والسدود
ويقول الخبير الاقتصادي سعد العبيدي، إن بداية الأزمة تعود إلى دخول العراق في حرب مع إيران عام 1980، مشيراً إلى أن هذه الحرب قضت على جميع الأراضي الزراعية الموجودة في داخل المدن الحدودية مع إيران.
ويضيف العبيدي أن أهمية المياه ودورها في بناء البلدان وخططها المستقبلية، جعل دول المصب تفكر منذ سنين طويلة في استغلال المياه بشكل أفضل، من خلال بناء السدود التي تسهم في توليد الكهرباء وإنشاء مزارع عملاقة فضلاً عن جذبها السياحي ما يجعلها توفر مورداً مالياً كبيراً.
ويوضح أن فترة الحصار التي مرّ بها العراق، بسبب غزوه الكويت عام 1990، الذي استمر نحو 13 عاماً، حتى سقوط نظام صدام حسين في 2003، زاد من نقص المياه بالعراق، إذ تعرض السكان لفقر شديد، اضطرهم إلى قطع الأشجار واستخدامها كوقود داخل البيوت، ثم زادت عملية قطع الأشجار وحرق وجرف مساحات واسعة من البساتين والأراضي الزراعية، بسبب المعارك بين فصائل المقاومة وقوات الاحتلال الأميركي، وتلتها المعارك مع تنظيم داعش والعنف الطائفي.
ويضيف أن كل هذا أدى إلى تحول مساحات واسعة جداً من الأراضي الزراعية والبساتين العامرة بالأشجار إلى صحراء قاحلة، ساهمت بتسريع عملية تبخر المياه من الأنهار والمستنقعات والبحيرات، وأضرت أيضاً بالمياه الجوفية مع ارتفاع درجات الحرارة التي عرفتها بلدن العالم في خلال السنوات الأخيرة.
ويشير العبيدي إلى أن للفساد دوراً في شح المياه، موضحاً أن موظفين مختصين يزودون حصصاً مائية لبعض المزارع مقابل دفع رشاوى، لافتاً إلى ضرورة التغلب على شح المياه، من أجل استمرار الزراعة والحد من استيراد المحاصيل.
ويتابع: "ليس خفياً فإن مسؤولين كباراً ينتفعون من عمليات الاستيراد، وكلما قل إنتاج العراق من المحاصيل الزراعية، وزادت الأراضي المتصحرة زادت أرباحهم".
ويشير إلى أن مشكلة المياه أثرت بطبيعة الحال على الثروة الحيوانية، حيث تراجعت تربية الماشية، بشكل كبير مؤخراً، لاسيما مع سيطرة داعش عام 2014، على مساحة تبلغ ثلث العراق، تعتبر من أوسع المساحات الزراعية ومناطق الرعي وتربية الماشية، وهو ما أدى إلى فقدان البلاد لثروة حيوانية طائلة.

تضرر مزارع الأسماك
ولم تقتصر الأضرار على الزراعة وتربية الماشية، وإنما امتدت إلى المزارع السمكية. ويقول أحمد فياض الفتلاوي صاحب مزرعة مرخصة للأسماك في مدينة العمارة جنوب بغداد، إنه تكبد خسائر كبيرة جراء انخفاض المياه مع عشرات آخرين من أصحاب المزارع المجاورة.
ويضيف الفتلاوي: "هذه أول مرة ينخفض فيها منسوب المياه في دجلة بهذا الشكل، واضطررنا إلى نقل الأسماك الصغيرة لأحواض بلاستيكية كبيرة قمنا بشرائها تصل سعة الواحد منها إلى 30 ألف لتر، بينما بعنا الكبيرة بثمن رخيص في السوق لأن الجميع قام بإفراغ ما لديه من أسماك بالسوق خوفاً من هلاكها، وصار سعر كيلو السمك ألفي دينار (1.5 دولار)".
ويتابع "خسرت أكثر من 100 ألف دولار ومثلي آخرون كانت خسارتهم أكبر مع الأسف، والحكومة لن تعوضنا على خسارتنا هذه رغم أنها مسؤولة عما يجري بسبب سياستها المائية الفاشلة وسوء توزيع حصص المياه بين المحافظات التي يمر من خلالها نهر دجلة جنوب العراق".

من جانبه يقول سلام الياسري، صاحب مطعم يقع على نهر دجلة يعرف باسم مرسى ميسان، إن الزبائن اختفوا من المكان منذ أيام فقد كانوا يأتون للجلوس والتمتع بمنظر النهر، بينما الآن لا يجدون سوى الرائحة الكريهة الناجمة عن الصرف الصحي الذي يصب في مجرى النهر، فالوضع أضحى سيئاً للغاية".
ويقول عضو نقابة الفلاحين العراقيين ماجد الساعدي، إن الانخفاض الحالي في مياه دجلة يهدد بتصحر نحو 300 ألف دونم زراعي توقفت عنها المياه.
ويضيف الساعدي: "الفلاحون لا يحصلون على المياه الكافية لسقي البساتين والمزروعات، والآن هناك إقبال كبير على حفر الآبار، لكنها لن تكون كافية لهذا القدر الواسع من الأراضي الزراعية".
ويشير إلى أن الحكومة بحاجة إلى فتح حوارات مع تركيا وإيران بخصوص حصة العراق في مياه دجلة، كون السدود التي أنشأتها الدولتان على منابع النهر أثرت بشكل كبير على ما يصل إلى العراق، وهو مخالف لاتفاقيات دولية وأخرى ثنائية جرى التوافق عليها منذ عام 1969.
المساهمون