هوس التراكم.. الدرس التاريخي لكورونا (2-2)

24 ابريل 2022
جدارية كورونا في مومباي بالهند (براتيك شورجه/ Getty)
+ الخط -

تشدد كافة الرؤى الاقتصادية الكلاسيكية على غلبة الميل للركود في النظام الرأسمالي في الأجل الطويل؛ بما يعقبه ويرتّبه من تفاقم للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مع تراجع النمو وتدهور التوزيع والبيئة، والتي ستكون نتيجتها كما رأى كافة الاقتصاديين الكلاسيكيين، منظّرو الرأسمالية الأوائل، إما تغييرًا لنمط التراكم بانتقال ثوري لتنظيم إنتاجي وتوزيعي مختلف، أو تدهورًا لذلك التراكم، إما ركودياً على الطريقة الكلاسيكية أو انهيارياً على الطريقة المالتوسية!

يلعب النظام النقدي والمالي والائتماني دورًا تأجيليًا لاختناقات التراكم، بخلقه سيولة وهمية تستند للوعد بسدادها آجلاً، لضمان استمرار عجلات التراكم عاجلاً

وبالنظر لطريقة عمل النظام، نجد حافز الربح الذي ناقشناه كدافع مُحرّك للرأسمالية لإشباع الحاجات الاجتماعية، يمثل بذاته الوجه "الميكروي/الجزئي" للنمو كوجه "ماكروي/كلي" للاقتصاد، والذي احتل بصفته هذه كوسيلة بالأساس موقع الهدف منه؛ ليخلق نوعاً من الهوس بذاته، مشكلته أنه يجعل الإنتاج للإنتاج، حتى لو ألقينا فوائض ذلك الإنتاج في البحر كما يحدث كثيراً! 

ويقود هذا الإنتاج لفرض الاستهلاك للاستهلاك، حتى لو حققنا ذلك بتعجيل وتيرة الأخيرة، بخفض جودة السلع لضمان سرعة هلاكها، وبتوفير الائتمان الاستهلاكي بمستويات انفجارية، وهذا ما يفسّر نشر النزعة الاستهلاكية والائتمان الاستهلاكي منذ السبعينيات، فضلاً عن صعود إمبراطورية الموضة التي غزت كافة المجالات، بدءاً من الملابس، وليس انتهاءً بأجهزة السمارت فون!

 

يخرّب هذا الهوس الإنتاجي/الاستهلاكي التوازن البيئي، سواء بشكل مباشر باستهلاك الموارد لمصلحة إنتاج واستهلاك مُفرطين غير ضروريين، أو بتخريبه بشكل غير مباشر بنفاياتهما، لكن ما الذي يفرض ذلك النمط من التراكم؟ أو بصيغة أكثر تحديداً، ما الذي يفرضه على الرأسمالية نفسها، ويجعلها مُرتهنة به بلا مفر؟!

هذا ما يجيبه "معدل" الربح كمدخل أوّلي للتفسير، حيث لا يتعلّق الأمر فقط بمجرد كونه الحافز المُتصل بطبيعة النظام، بل بإشكالات إنتاجه وتحقيقه في سياق تطور النظام نفسه، وهو ما يعيدنا للتوقعات الكلاسيكية الخاصة بالتراكم، في علاقته بالتوزيع والبيئة!

ودونما توسّع مُفرط في التحليلات النظرية، يفيدنا بشكل خاص تحليل ماركس لأحد القوانين المركزية لتطور الرأسمالية، إن لم يكن قانونها الأساسي، الذي اعتبره في سياق آخر، وإن بصيغة مختلفة، مهمتها التاريخية، قانون "تزايد التركيب العضوي لرأس المال" سالف الذكر.

تؤدي زيادة عرض رأس المال في مُجمل الاقتصاد؛ لانخفاض عائده بشكليه، من "ربح" و"فائدة"

ويعني هذا القانون زيادة النصيب النسبي لرأس المال الثابت، من آلات ومعدات إنتاج، على حساب النصيب النسبي لرأس المال العامل، من قوة عمل، ضمن مُجمل كتلة رأس المال المُنتِج (الذي يعني هنا بالتعبيرات المتداولة رأس المال والعمل معاً)، وإذ يأتي فائض القيمة، الذي يشمل الربح، من رأس المال العامل بالأساس، فإنّ انخفاض النصيب النسبي لرأس المال العامل ضمن جملة رأس المال المتزايد، يؤدي لانخفاض معدل فائض القيمة، ومن ثم معدل الربح؛ كبديهية رياضية لانخفاض البسط مع زيادة المقام.

وهو ما يتوافق مع منطق العرض والطلب الحاكم للمدرسة الاقتصادية السائدة، حيث تؤدي زيادة عرض رأس المال في مُجمل الاقتصاد؛ لانخفاض عائده بشكليه، من "ربح" و"فائدة"؛ لا عجب في انخفاض الفوائد في البلدان الرأسمالية المتقدمة الغنية برأس المال، وارتفاعها في المتخلفة فقيرته. ينتهي بنا كلّ هذا لقانون ماركس الثاني، القاضي بـ "الميل العام لانخفاض معدل الربح".

 هنا نصطدم بالأزمة الكامنة في صلب الرأسمالية، أنّها تعاني تدهوراً هيكلياً في مُحركها وقدس أقداسها، معدل "الربح الرأسمالي" (والذي لا يشمل كافة أنواع الربح)؛ ما يجعلها في حالة هروب دائمة من ذلك الميل، ومواجهة أزلية له؛ وهكذا لم يعد ما يدفع التراكم والنمو حافز الرابح في ذاته، بل مواجهة التدهور المُزمن لذلك الربح، فيا لها من معركة سيزيفية!

يفسّر هذا توحشّ الرأسمالية وارتداداتها عن كثير مما حققته من تقدم اجتماعي وإنساني خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بالضغط المستمر على كافة عناصر التكاليف، أو بصيغة أكثر تقنية، على عوامل الإنتاج الأخرى، العمل والطبيعة؛ لتعويض ذلك الانخفاض الهيكلي في معدل الربح؛ وهو ما انعكس سلباً على التوزيع والبيئة ضمن الثلاثية، دون تحسّن كبير في رفيقهما النمو!

لهذا لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فبرز منفذان أساسيان آخران لزيادة الربح، وهما استعادة بعض أشكال التراكم البدائي، والمراكمة الانفجارية لنظام الائتمان.

أما عن التراكم البدائي، فيشمل كافة أشكال التراكم العنيف ما قبل الرأسمالي، الذي يتحقق بأساليب غير إنتاجية، ويشمل ذلك كافة أعمال النهب الاستعماري، وانتزاع الملكيات الشائعة/العامة من أراضٍ وموارد طبيعية، وما شابهه من أشكال عنيفة في جوهرها، ولو توشّحت بأشكال قانونية تخفي جوهر العسف والإذعان.

ومن الواضح كيف يؤثر ذلك الشكل بطريقة مباشرة على البيئة؛ ما ظهر في التدهور الطبيعي في بلدان الأطراف الرأسمالية في أفريقيا وآسيا، حيث تستطيع الشركات متعددة الجنسيات العبث بالبيئة دون رقيب من قوانين وديمقراطيات مراكزها!

في المقابل، يلعب النظام النقدي والمالي والائتماني دوراً تأجيلياً لاختناقات التراكم، بخلقه سيولة وهمية تستند للوعد بسدادها آجلاً، لضمان استمرار عجلات التراكم عاجلاً، وهي سيولة وهمية لأنها مجرد تأجيل بقيود "اسمية" محاسبية على الورق، لاختناقات "فعلية" سببها سوء توزيع عوائد الإنتاج والنمو المرتبط بحاجات زيادة الربح نفسه.

وهو ما جعل ذلك الانتفاخ الائتماني ضرورةً موضوعية لمعالجة اختلال توزيعي هيكلي في صلب النظام؛ ليخلق بدوره ضغطاً هائلاً على منظومة الإنتاج والاستهلاك العينية؛ بفرضه معدلات استرداد أسرع لرأس المال، مع ارتفاع مكونه المُقترض؛ ما يفرض مزيدًا من السعي السيزيفي (العبثي) لمواجهة انخفاض معدلات الربح المتناقصة، والمُطارَدة بتضخم مُتفاقم. وهو ما نرى بعضاً من وجوهه هذه الأيام، بسبب تشوّهات ذلك المُكون المالي/النقدي/الائتماني نفسه؛ ليفرض بدوره مزيداً من تسارع عجلة التراكم/الهروب لملاحقة هذه المطلوبات الربحية المتسارعة؛ ويحفز لمزيد من الضغط على عنصريّ العمل والطبيعة!

يلعب النظام النقدي والمالي والائتماني دوراً تأجيلياً لاختناقات التراكم، بخلقه سيولة وهمية تستند للوعد بسدادها آجلاً، لضمان استمرار عجلات التراكم عاجلاً، وهي سيولة وهمية

يقودنا كلّ ما سبق لحتمية الهوس الرأسمالي بالنمو الكلاسيكي؛ بشكل يعوق ترشيد الرأسمالية لنمط تراكمها؛ إذ لم يعد يتعلّق الأمر بمجرد مطامع الربح، الذي يمثل صلب وجودها ومبدأ عملها، بل بضمان عدم انهياره كلياً، الأمر الذي يتصل بذاته بعدة أبعاد هيكلية لا يمكن تغييرها دون تغيير جذري في طبيعتها وحوافزها وآليات عملها التكوينية ذاتها؛ ما سيجعل دروس كورونا بالنسبة للرأسمالية مجرد دروس نظرية لا تجدي في تغيير الواقع القريب فتيلاً!

المساهمون