دفعت الأزمة الاقتصادية ربات البيوت في مصر إلى البحث عن حلول ناجعة، توفر لهم أشهر أكلة وطنية لا يهواها سوى المصريين بتكلفة معقولة. ووسط احتفالات محدودة بيوم "شم النسيم"، أقبلت العائلات على شراء الفسيخ "سمك البوري المملح"، في عيد شعبي لا ينتمي لأي طائفة أو دين، تمتد جذوره منذ عهد الفراعنة. جاء الاحتفال التقليدي أمس، مواكباً لليالي العشر الأخيرة من رمضان، فحدت من الإقبال على شراء الفسيخ المملح، وتأجلت الحفاوة به على نطاق واسع، لعدة أيام تبدأ بحلول عيد الفطر.
شهدت أسعار الوجبة المفضلة ارتفاعاً قياسياً، فاقت ضعفي الأسعار السائدة العام الماضي، متأثرة بزيادة أسعار أسماك البوري والسردين، ضمن موجات الغلاء التي طاولت جميع السلع الغذائية التي ارتفعت بمعدل 62% وفقاً للبيانات الرسمية.
ارتفعت أسعار الفسيخ بالأسواق الشعبية وزادت حدتها في المناطق الراقية، حيث تراوح سعر الكيلو للفسيخ المملح الصغير وزن 250 غراماً للسمكة من 100 إلى 200 جنيه، وإلى حدود 250 جنيها للسمكة وزن 400 غرام، ويصل إلى 300 جنيه للسمكة البوري مزارع وزن يزيد عن 750 غراماً.
تضاعفت أسعار الفسيخ الكبير بالمحلات الشهيرة بالعاصمة والمدن المحيطة بها، حيث يتراوح سعر الكيلو من 450 إلى 600 جنيه (الدولار = 30.9 جنيهاً). تتشارك أسماك الرنجة، والمأكولات البحرية الطازجة والمعبأة، الوجبة الشعبية، التي يقبل عليها المصريون بنهم في مناسبتين رئيستين طوال العام هما، شم النسيم وعيد الفطر.
تتنافس محافظات الدقهلية والبحيرة والإسكندرية وبورسعيد (شمال)، على سوق الفسيخ، وتأتي مدينة نبروه، وسط الدلتا الأكثر شهرة، في ما يعرف بـ "فسيخ نبروه" بصفته كثير الدسم، قليل الملوحة، ومن بعدها تأتي منتجات مدينة رشيد غربي الدلتا، التي نشرت ثقافتها على تجار مدن بيلا بكفر الشيخ، والإسكندرية وبورسعيد ودمياط على ساحل البحر المتوسط.
يكافح التجار من أجل تدبير كميات كبيرة من سمك "البوري" الذي شح إنتاجه العام الماضي، مع غلاء الأعلاف التي تغذي مزارع الأسماك المنتشرة، بالبحيرات الشمالية وفرعي نهر النيل، عقب صدور قيود الاستيراد السلعي التي وضعها البنك المركزي بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وتدهور قيمة الجنيه أمام الدولار.
أظهر الجنيه المتراجع ضعفاً في القوة الشرائية للمواطنين، بخاصة الطبقات الشعبية التي يعاني 60% منها من الفقر أو يصارع للبقاء.
ارتفع سعر كيلو البوري من 50 إلى 100 جنيه، خلال 12 شهراً، وزاد في الأسبوعين الأخيرين، ليبلغ 125 جنيهاً للكيلوغرام.
تنبأت رباب البيوت بأن تأتي الأسعار الملتهبة على غير أهوائهن وحرصهن على توفير الوجبة الشعبية لأسرهن بشتى الطرق. استبقت السيدات الأحداث، بتنشيط دعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي منذ مطلع إبريل/ نيسان الحالي، تنبه الأسر إلى شراء "أسماك البوري" لتصنيع الفسيخ أو سمك السردين المملح بالبيوت، بوضعه في الملح الخشن لمدة تتراوح ما بين 12 و15 يوماً.
تدعو "أم بودي" وهي من نشطاء "يوتيوب" جاراتها بأن يشترين البوري والسردين من الأسواق، لتعلمهن صناعتهما منزلياً، بما يمكنهن من الحصول على كميات وفيرة، بربع ثمنها السائد بالمحلات.
يبدي جمهور "أم بودي" وأمثالها حماسة لمتابعة الفيديوهات المنشورة، مؤكدين حرصهم على تناول الوجبة الشعبية، في موعدها، لتذوق وجبة غير تقليدية بعد أن ضجوا من أكلات متكررة طوال شهر رمضان.
تحرص السيدات على تقليد محترفات الصناعة من الـ"يوتيوبرز" وأصحاب المحلات الشهيرة الذين وضعوا خبراتهم في أفلام مصورة، ليصنعن من "الفسيخ شربات". المعني مجازي لدى السيدات المصريات، لكن عند المصريين الفسيخ الجيد، يطلقون عليه: "حلو مثل المربي أو القشطة أو شربات".
تحفزت ربات البيوت أمام الزيادة الكبيرة في أسعار الفسيخ بالمحلات، ويؤكد التجار أنهم غير قادرين على تخفيضها، بعد أن سيطرت شركة وطنية لصناعة الأسماك على مناطق المزارع السمكية الشهيرة بالبحيرات الشمالية، بداية من جنوب العريش (شمال شرق) وامتدادا على ساحل المتوسط، بمحافظات بورسعيد وكفر الشيخ وجنوب الإسكندرية.
ينوه تجار إلى أن الكميات المطروحة للبيع عبر منافذ الشركة الوطنية التابعة للجيش والقطاع الخاص انخفضت بنحو 50%، مع ندرة المغذيات والأعلاف وارتفاع سعر الطن من 11 ألف جنيه منذ مارس/ آذار العام الماضي إلى 30 ألف جنيه حالياً.
زادت تكلفة الوقود وأعباء التشغيل ومستلزمات الإنتاج، بينما يكافح التجار للحفاظ على سعر مقبول للفسيخ والسردين، من دون جدوى.
وعدت الحكومة بطرح 400 طن من الفسيخ والرنجة اعتباراً من أمس الإثنين الماضي حتى نهاية عيد الفطر، عبر منافذ الشركة القابضة للصناعات الغذائية والمجمعات الاستهلاكية، بتخفيضات تصل إلى 25%، في 313 فرعاً مع عربات متنقلة، ومنافذ " أهلا رمضان" المدعومة من الغرف التجارية.
تعرض المنافذ الحكومية الفسيخ بسعر 200 جنيه، بما يوازي أسعار المناطق الشعبية، مع ذلك يتوقع التجار بيع الكميات المعروضة بالأسواق، الشعبية والراقية خلال أيام، مع قلة المعروض وزيادة الطلب، وطول فترة الاحتفال بالمناسبتين الشهيرتين وحدوثهما بوقت واحد، يتكرر كل 30 عاما، لعامين متتاليين، بمناسبة توافق أيام السنة الميلادية وشهر رمضان.
تؤكد دراسات بحثية لمركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة أهمية الأسماك في توفير البروتين للمواطنين، في دولة تعاني من نقص دائم يعادل 50% عن المعدلات الدولية من البروتين المتوفر باللحوم الحمراء والبيضاء، في غذائه اليومي.
تشير الدراسة إلى أن محدودية الرقعة الزراعية والموارد المائية، ستظل عقبة أمام التوسع في صناعة اللحوم بأنواعها، مع اعتماد الدولة على تدبير البدائل وأغلب مستلزمات انتاجها من الخارج.
توصي الدراسة بضرورة زيادة الإنتاج السمكي، الذي بدأ يشهد تطوراً ملموساً منذ عام 2013، بما يوفر846 ألف طن من مصايد الأسماك الطبيعية البحرية على امتداد سواحل البحرين الأحمر والمتوسط والمياه العذبة بنهر النيل والبحيرات ومزارع والاستزراع السمكي.
تنتج مصر أسماك البلطي والبوري والمبروك والبياض والقاروص والسردين والجمبري، لا تكفي لسداد احتياجات المواطنين، التي تصل إلى 932 ألف طن سنوياً، رغم تراجع الاستهلاك.
لجأت شركة وطنية إلى رفع معدلات التصدير من أسماك الدنيس ببحيرات شمال سيناء والجمبري من مزارع غليون، ومشاركة القطاع الخاص في تصدير كميات إضافية للخارج طلباً للعملة الصعبة، مع توفر واردات بكميات مضاعفة من الأسماك الطازجة والمصنعة من روسيا وإسبانيا والمغرب.