مسيرة مليئة بالطموح والتحدي والجدل والانتقام أيضاً من الخصوم.. من "حمّال" على أرصفة ميناء الإسكندرية شمال مصر إلى أحد أثرياء بريطانيا والعالم، إذ لم تكن صفقاته وحدها التي لفتت الانتباه على مدار سنوات طويلة، وإنما أيضا علاقاته ونجله الراحل بالعائلة المالكة في بريطانيا التي تبدلت من الحب إلى الكراهية.. إنه الملياردير المصري محمد الفايد، الذي توفي، يوم الخميس الماضي، عن عمر يناهز 94 عاماً.
شملت إمبراطورية الفايد قطاعات تتنوّع بين الشحن والعقارات والخدمات المصرفية والنفط وتجارة التجزئة والبناء.
وبحسب مجلة فوربس، بلغت ثروته ملياري دولار، وهو مصنف في المركز الثاني عشر ضمن قائمة المجلة للأثرياء العرب لعام 2023، وترتيبه بين أثرياء العالم في المركز الـ1516.
وُلد محمد الفايد في مدينة الإسكندرية في مصر عام 1929 لأسرة من الطبقة المتوسطة. كان شغوفاً بالتجارة منذ طفولته، وكثيراً ما كان يتغيب عن المدرسة للقيام بأعمال غريبة، مثل بيع المشروبات الغازية في الشوارع أو آلات الخياطة من الباب إلى الباب.
وعمل "حمالا" في ميناء المدينة التي توصف بعروس البحر المتوسط، حيث جذبته أمواج لا تتوقف من الطموحات.
وعند أقرب فرصة لاحت أمامه شق الفايد طريقه إلى السعودية للعمل في التجارة، وخلال تلك الفترة استطاع أن يجمع ثروة كبيرة. ولأن قلبه معلق بالبحر وميناء الإسكندرية عاد إلى مسقط رأسه من جديد وأسس شركة شحن.
وبدأت تجارة الفايد في التوسع، واستطاع أن يشترى سفينتى شحن بضائع كاملتين، تقفان في ميناء الإسكندرية، وتعملان على خط "جينوا ـ الإسكندرية ـ بيروت ـ إسطنبول".
وفي الستينيات، أصبح الفايد مستشاراً لعدد من أغنى الرجال في العالم، من بينهم حاكم دبي السابق الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم الذي كلفه بالمساعدة في بناء المدينة الإماراتية، وفق ما ذكرته صحيفة "ذا إندبندنت" البريطانية. وكذلك بحسب ما قال الفايد في مقابلات تلفزيونية.
وظل الفايد بعيداً عن الأضواء، حتى سطع نجمه عندما تمكن في عام 1979 هو وشقيقه من شراء فندق ريتز باريس، ثم شراء متجر هارودز الشهير في لندن عام 1985 بعد معركة استحواذ طويلة ومريرة.
واستثمر الفايد بقوة في المتجر الذي اشتراه مقابل 615 مليون جنيه إسترليني (669 مليون دولار في ذلك الوقت)، وافتتح متاجر أخرى تحمل علامة "هارودز" التجارية، قبل أن يبيعه في عام 2010 لشركة قطر القابضة مقابل 1.5 مليار جنيه إسترليني.
وفي عام 1997 اشترى الفايد نادي فولهام الإنكليزي، وفي عهده ارتقى فولهام للدوري الإنكليزي الممتاز وصعد لنهائي الدوري الأوروبي، وبعد حوالي 16 عاماً، باعه في عام 2013 للملياردير شاهد خان بقيمة مقدرة بلغت 300 مليون دولار.
وأثار عقده للصفقات استياءً في دوائر الأعمال التي كانت تهيمن عليها لفترة طويلة نخبة من الطبقة العليا الراسخة. ولم يخف الفايد استياءه من تلك الدوائر. وقال لشبكة "سي أن أن" الأميركية في مقابلة أجريت معه عام 2004: "أعيش في بلد أشعر فيه بالأسف تجاه الناس العاديين.. مصيرهم وحقوقهم الإنسانية يتم اختطافها من قبل رجال سلطويين وأشخاص يطلقون على أنفسهم اسم المؤسسة، والذين ما زالوا عنصريين حتى النخاع".
رغم النجاحات التي حظي بها في حياته العملية إلا أن مسيرته كانت أيضا مليئة بالمعاناة والمعارك الشرسة مع خصومه، لاسيما الذين كانت تجمعه بهم علاقات وطيدة في السابق قبل أن تتبدل إلى الكراهية.
فقد عُرف باشتباكاته المريرة مع العائلة المالكة في بريطانيا بعد وفاة الأميرة ديانا في حادث سيارة في باريس عام 1997 بصحبة نجله عماد الشهير بـ"دودي". كان ذلك الحادث بمثابة نقطة تحول بالنسبة للفايد، الذي كان ذات يوم ملكياً من نوع ما، وكان يتوق إلى احترام الطبقة الأرستقراطية البريطانية.
اتهم الفايد العائلة المالكة بالرغبة في "التخلص" من ديانا، وروّج لسنوات أن الحادث كان بتحريض من دوق إدنبره وأفراد آخرين من العائلة المالكة لقتلها. لكن تحقيقاً استمر 11 عاماً خلص إلى حكم هيئة المحلفين عام 2008 بأن الحادث نتج عن الإهمال الجسيم في القيادة، لافتا إلى أن سائق السيارة رفقة ديانا وعماد الفايد كان مخموراً.
انتقلت علاقة الحب والكراهية بين الفايد والمؤسسة الحاكمة إلى البرلمان، وفق وكالة بلومبيرغ الأميركية، حيث تودد إلى عدد من السياسيين، وهي العلاقات التي أثبتت أنها نهاية الحياة المهنية لبعض أعضاء البرلمان، بعد أن كشف الفايد عن أسماء أولئك الذين دفع لهم المال لطرح الأسئلة في المجلس نيابة عنه.
واشتبك الفايد مراراً وتكراراً مع سلطات الضرائب، وعلى الرغم من نفوره الواضح من حكومة المملكة المتحدة، فقد تقدم مرتين بطلب للحصول على الجنسية البريطانية. وفي المرتين تم رفضه. ورأى الفايد في قرار رفض منحه الجنسية إهانة لكرامته.
وقال حينها "لماذا لا يمنحونني جواز السفر البريطاني؟ إني أملك متجر هارودز وأوظف فيه آلاف الأشخاص في هذا البلد".
واشتهر الراحل بأسلوبه الصريح والفظّ في كثير من الأحيان. فقد دفعت خيبة الأمل، الناجمة عن عدم حصوله على الجنسية، بالفايد إلى التصريح في الصحافة بأن وزيرين محافظين هما نيل هاملتون وتيم سميث، تلقّيا مبالغ مالية منه لقاء طرحهما أسئلة تخدم مصالحه في مجلس العموم.
ونتيجة لذلك، اضطر كلا الوزيرين إلى ترك الحكومة بسبب هذه الفضيحة، وخسر هاملتون، الذي أنكر تصريحات الفايد، قضية تشهير ضد الملياردير المصري أمام المحكمة.
كما استقال وزير الدولة حينها، جوناثان إيتكن، بعد كشف الفايد أنه أقام مجانا في فندق "ريتز" بباريس، تزامنا مع وجود مجموعة من تجار السلاح السعوديين. وانتهى الأمر بالوزير "إيتكن" إلى السجن بسبب إدلائه بشهادة كاذبة في المحكمة، وبذلك يكون ثأر الفايد من حزب المحافظين وألحق به ضرراً طويل الأمد.
واستقر الملياردير المصري في سويسرا منذ منتصف عام 2002 تقريبا بعد إخفاقه في الحصول على جواز سفر بريطاني بالرغم من امتلاك أبنائه الجنسية البريطانية.
ومن المواقف المثيرة له، أنه ترشح لرئاسة اسكتلندا معللاً أنها مصرية الأصل، وأن اسم اسكتلندا مشتق من اسم أميرة فرعونية رحلت إليها في الماضي البعيد.