متى تتوقف الحرب على غزة!

26 ابريل 2024
صبي فلسطيني يسحب عربة محملة بالخبز في رفح، 23 أبريل 2024 (محمد عابد/ فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- اندلعت حرب في البوسنة والهرسك في التسعينات عقب استقلالها، حيث شن الصرب هجومًا على المسلمين البوشناق استمر لثلاث سنوات، وسط تقاعس الأمم المتحدة والدول الأوروبية عن التدخل العسكري.
- "نفق الحياة" تحت مدرج المطار في سراييفو أصبح شريان الحياة للمدينة المحاصرة، مما ساعد في توفير السلع الأساسية ورفع معنويات المحاصرين، قبل أن تتدخل الأمم المتحدة والقوى العالمية لوقف الحرب.
- تشابه الأحداث في غزة مع ما حدث في البوسنة، حيث يتعرض المدنيون لجرائم إبادة جماعية وتجويع وحصار، مع تدمير مصادر الحياة الأساسية، مما يهدد بمذبحة مماثلة لمذبحة سربرنيتسيا.

في خضم الحرب على غزة لا بد من التذكير بأنه عندما نشب القتال بين الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك في بداية سنة 1992، هبت الأمم المتحدة بقيادة بطرس غالي وبقرار سريع من مجلس الأمن لتشكيل قوة دولية من 10 آلاف مقاتل لوقف الحرب. وما إن أعلنت جمهورية البوسنة والهرسك استقلالها عن الاتحاد اليوغسلافي في مارس 1992، حتى شن الصرب عدوانا همجيا على المسلمين البوشناق لمدة ثلاث سنوات، بدأ في إبريل من نفس العام واستمر حتى نوفمبر 1995. وكان هدف الصرب هو الاستيلاء على أراضي البوسنة التي تضم السهول الزراعية والمناجم ومنابع المياه المعدنية، والمصانع التي أسسها جوزيف تيتو في حقبة الاتحاد اليوغسلافي، ومنها أكبر مصنع سلاح في أوروبا، وكذلك أكبر مصنع للحديد والصلب.

رفض بطرس غالي تكليف قوات الأمم المتحدة المتواجدة هناك بالتدخل لصد الهجوم الصربي، وأوكل حل الأزمة للدول الأوروبية من خلال المفاوضات فقط، رغم اعتراف الأمم المتحدة بجمهورية البوسنة والهرسك ومنحها العضوية الكاملة. تعرضت الجمهورية الوليدة لأبشع جريمة "إبادة جماعية" منذ الحرب العالمية الثانية 1939-1945، من قتل للرجال والنساء والأطفال، واغتصاب للنساء والبنات، وحصار وتجويع وحرمان من الطعام والمياه والأدوية والوقود والكهرباء ومواد التدفئة، وقصف للبنايات في المدن والقرى، وقنص للمدنيين، تماما كما تتعرض غزة اليوم لجريمة "إبادة جماعية" وتجويع وحصار.

قتل الصرب ما بين 200 ألف إلى 350 ألفا، واغتصبوا ما بين 60 ألفاً إلى 100 ألف سيدة، وهجروا أكثر من 2 مليون نازح، وهدموا 650 مسجدا. ونفذوا عمليات تطهير عرقي وإبادة جماعية وتهجير قسري واستبدال للصرب محل المسلمين في معظم قرى ومدن البوسنة والهرسك، على مرأى ومسمع من الدول الأوروبية والولايات المتحدة والأمم المتحدة. وانخرط آلاف المقاتلين "المرتزقة" من صربيا واليونان وروسيا في القتال في صفوف الصرب، ونفذوا جرائم إبادة جماعية ومذابح وحصار وتجويع ضد المدنيين البوشناق. ولم يتدخل مجلس الأمن ولا حلف الناتو لوقف المجازر.

تماما كما يحدث في غزة منذ أكثر من 200 يوم. حيث كشفت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بفلسطين، فرانشيسكا ألبانيز أن "مرتزقة" يحاربون في قطاع غزة في صفوف الجيش الإسرائيلي، وقالت إن "الإبادة الجماعية التي يشهدها قطاع غزة حالياً تجري بإذن من العالم، كما حصل في سربرنيتسا ورواندا، ويقوم بها "مرتزقة" من فرنسا، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وأوكرانيا، وإيطاليا، وألمانيا، وجنوب أفريقيا والهند". وقالت إنه لا أحد يصف هؤلاء بالإرهابيين الأجانب.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية


سلاح الحصار والتجويع

نزح نصف مليون بوسنوي من مذابح الصرب في القرى والمدن البعيدة إلى العاصمة سراييفو. حاصرهم الصرب وحرموهم من الطعام والشراب والسلاح، وقتلوا منهم أكثر من 11 ألف شخص، بالقنص والقصف والتجويع. وكما يحدث في غزة، ألقت طائرات الإغاثة طرود غذائية لا تسمن ولا تغني من جوع من الجو، واستخدمها الصرب كمصيدة لقنص الضحايا المتجمعين حولها، والمجتمع الدولي يتفرج كما يتفرج على قنص أهالي غزة المنتظرين لسيارات الطحين.

أخبرني صديق من الذين شاركوا في الإغاثة الإنسانية في البوسنة، وكان قريبا من دائرة الرئيس علي عزت بيغوفيتش، أنه أثناء عمليات التجويع والمجازر الهمجية التي كان ينفذها الصرب بحق المدنيين البوشناق وخذلان المجتمع الدولي والأمم المتحدة، سأل أحد الدبلوماسيين بطرس غالي: "متى ستتوقف الحرب في البوسنة؟ّ"، فأجابه بصوت خفيض "عندما ينتصر المسلمون". وفسر الجواب بأن دول أوروبا ستوفر غطاء للصرب حتى يتخلصوا من البوشناق وتصبح أوروبا مسيحية خالصة، ولن تتدخل إلا إذا تحولت الحرب.

في حصار سراييفو، كان مدرج مطار المدينة هو الممر الوحيد لإدخال الطعام والأدوية والسلاح للمدينة المحاصرة بين منطقتي دوبرينيا وبوتمير اللتين يسيطر عليهما الجيش البوسني. وكان ممرا مميتا، قتل فيه قناصة الصرب نحو 500 بوسني وهم يحاولون عبور المدرج. اقترح أحد جنرالات قوات البوسنة "النابهين"، واسمه راشد زولراك، حفر نفق تحت مدرج المطار يستخدم في إدخال العتاد العسكري للطرف المحاصَر والغذاء والوقود وإجلاء الجرحى من القرى والمدن المنكوبة للعلاج داخل مستشفى سراييفو. وأنجز المقاتلون حفر النفق بطول 800 متر، وعرض متر واحد أو يزيد بضعة سنتيمترات قليلة، وارتفاع أقل من مترين، في خمسة شهور.

وفي أول يوم للعمل داخل النفق، نقل المقاتلون من خلاله 12 طنا من العتاد العسكري، وأصبح شريان حياة للمدنيين والمقاتلين. وسرعان ما ارتفعت معنويات المحاصرين وانخفضت أسعار السلع بعد توفرها. وحال النفق دون سقوط سراييفو. وتحول إلى متحف وقد زرته قبل سنتين وعرفت لماذا يطلقون عليه اسم "نفق الحياة" رغم بساطته بالمقارنة مع النفق الذي كشفه الجيش الإسرائيلي بعد استخدامه من قبل كتائب القسام. استطاع المقاتلون البوشناق، مع وصول أعداد من المتطوعين العرب والمسلمين، استرداد العديد من المدن والقرى من قبضة الصرب، حتى وصلوا إلى مشارف بانيالوكا، عاصمة صرب البوسنة. وتحولت رحى الحرب لصالح البوشناق. في هذه اللحظة، تدخلت الأمم المتحدة، بقيادة بطرس غالي، والولايات المتحدة والدول الأوروبية لوقف الحرب.

أخبرني أحد القادة الذين شاركوا في تلك الحرب أن الرئيس علي عزت بيغوفيتش لم يصغ في البداية لنداءات المجتمع الدولي المنافق، الداعية لوقف الحرب، وذلك بعد الانتصارات التي حققها البوشناق. وطلب من قواده مواصلة القتال وتحرير القرى والمدن البوسنية من قبضة الصرب دون الالتفات لطلبات التفاوض. وتلقى تحذيرات عديدة لوقف الحرب ولكنه لم يأبه لها.

رسالة من سربنتسيا

أثناء سنوات حرب البوسنة، لجأ إلى مدينة سربرنيتسا الواقعة في أقصى شرق البوسنة، آلاف المسلمين البوشناق الهاربين من بطش الصرب في المدن الأخرى، وتضاعف عدد سكان المدينة من 7 آلاف إلى 30 ألفا. وأعلنت الأمم المتحدة، المدينة منطقة آمنة منزوعة السلاح وتحت حماية الكتيبة الهولندية التابعة للأمم المتحدة. بعد نزع قوات الأمم المتحدة السلاح من الناس، دخلت القوات الصربية إلى المدينة، فلجأ 25 ألفا منهم إلى مقر الكتيبة الهولندية، فاستقبلت 5 آلاف منهم وطردت الباقين فتجمعوا في مصنع للبطاريات أمام مقر الكتيبة، وفر الباقون بأسلحتهم إلى مدينة توزلا التي يسيطر عليها المسلمون على بعد 100 كيلو متر.

ذلك أن تجميع السكان المدنيين في المصنع الضيق، وقد زرته بعد المذبحة بعشرين سنة وما زال على حاله تعلوه كآبة المذبحة وتفوح منه رائحة الخيانة الأممية، وتركته السلطات ليكون واعظا للمخدوعين في إنسانية الغرب والمستسلمين لقوانين الشرعية الدولية، يدل على أن مخطط الخيانة قد حيك في ظلام الليل الأسود.

حكت لنا السيدة أمينة، إحدى الناجيات من المذبحة والمقيمة بجوار مقبرة ضحايا سربرنتسيا، أن الصرب كانوا يخرجون المدنيين في مجموعات خارج المصنع ويطلقون عليهم الرصاص دون رحمة. قتل الصرب 8 آلاف مسلم بدم بارد، وقوات الأمم المتحدة موجودة في ذات المكان. فهم بيغوفيتش الرسالة، وتدخلت الولايات المتحدة والأمم المتحدة والدول الأوروبية بـ"فرض" اتفاق دايتون للسلام والذي قضى بالاعتراف بجمهورية صرب البوسنة ومنحهم 49% من أراضي البوسنة والهرسك، رغم أن عددهم 33% فقط من السكان، ومنح 51% المتبقية للبوشناق المسلمين والكروات والصرب أيضا.

في حواره مع مذيع قناة الجزيرة أحمد منصور، برر بيغوفيتش اعترافه بجمهورية صرب البوسنة بقوله: "كنا نخشى حدوث مآس أخرى مثل ما حدث في مدينة سربرنيتشا، وكنا ندخل في مرحلة شتاء، كنا محاصرين بدون كهرباء ولا طعام ولا مساعدة إغاثية، لذا لم نخاطر بمواصلة الحرب".

مذبحة رفح المنتظرة

رفح هي المدينة الوحيدة التي لم يتم اجتياحها بعد من قبل قوات الاحتلال، نزح إليها 1.3 مليون مدني من مدن غزة فرارا من المذابح الإسرائيلية والتي لا يتجاوز تعداد سكانها قبل العدوان أكثر من 60 ألفا. يتعمد الجيش الإسرائيلي تدمير سبل الحياة فيها. وخاصة أشجار الزيتون لأنها عماد الأمن القومي الفلسطيني، وعنوان الصمود في وجه العدو وسياسات التهجير والترحيل عن الأرض. شجرة الزيتون في غزة هي الزراعة والصناعة وإدام الخبز مع الزعتر. وتقدر مساحة الأراضي المنزرعة بالزيتون في قطاع غزة قبل السابع من أكتوبر بنحو 43 ألف دونم، المثمرة منها حوالي 35 ألف دونم، فيها حوالي مليون شجرة زيتون، نصفها تقريبا في محافظات الجنوب، رفح وخانيونس ودير البلح. كانت تنتج نحو 35 ألف طن من الثمار، ونحو 5000 طن من زيت الزيتون، والتي تحقق الاكتفاء الذاتي لسكان القطاع ويتبقى كمية منه للتصدير.

كثير من أشجار الزيتون في غزة معمر، وبعضها يصل إلى العصر الروماني، وتنتج أجود أنواع زيوت الزيتون في العالم، ويتهافت عليه أصحاب مصانع زيوت الزيتون في إسبانيا وايطاليا واليونان، ويعيدون تعبئته وتصديره بأسعار مضاعفة، أو يخلطونه مع الزيوت المنتجة محليا لتحسين جودتها وزيادة قيمتها التجارية. كل هذه الثروة دمرها الجيش الإسرائيلي، ودمر محصول هذا العام، ودمر أكثر من مليون شجرة زيتون.

استمرار رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، في الحرب رغم قتله أكثر من 34 ألف شهيد، وعجزه عن تحرير الأسرى بالقوة وفشله في تحقيق هدف القضاء على حماس، يؤشر على أن مخططا يعد لاجتياح مدينة رفح وارتكاب مذبحة تشبه مذبحة سربرنتسيا، حتى لا يبقى في غزة حجر على حجر، ردا على نكسة السابع من أكتوبر، ولإرضاء اليمين المسيطر على الحكم في إسرائيل. هذا المخطط لا يمكن إفشاله إلا إذا توقف الدعم الغربي الذي كره قيام دولة مسلمة في وسط أوروبا المسيحية، والتواطؤ العربي الكاره لانتصار غزة على جيش هزم جيوشهم في ستة أيام.

المساهمون