استمع إلى الملخص
- **مشاريع الإعمار والتحديات**: أطلق صندوق إعمار درنة مشاريع عديدة، لكن تم افتتاح عدد قليل منها. المهندس جبريل المهيوب يعبر عن مخاوفه من الإسراع في الإنجاز وتأثيره على جودة البناء، مع غموض حول مصادر التمويل.
- **المكاسب السياسية والشفافية**: الناشط أيوب القاضي يشير إلى استغلال مشاريع الإعمار لتحقيق مكاسب سياسية، مع غياب الشفافية حول التمويل والأعداد الحقيقية للضحايا. الصراع السياسي بين سلطات الشرق وطرابلس يعقد ملف الإعمار.
مر عام على كارثة إعصار "دانيال" الذي ضرب عدة مناطق ومدن في شرق ليبيا، أبرزها مدينة درنة، مخلفة الآلاف من الضحايا والمشردين، وسط إعلانات عن مشروعات الإنماء والإعمار التي تتولاها سلطة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، لم تتحقق منها إلا نسب ضئيلة.
ولم تعلن سلطات حكومة مجلس النواب المسيطرة على درنة، والخاضعة لسلطة حفتر، عن أرقام واضحة ونهائية لضحايا السيول والمشردين.
وكان آخر ما أعلنه الناطق باسم قيادة مليشيات شرق ليبيا، أحمد المسماري، من أن عدد الضحايا بلغ 4120 قتيلا فقط، من دون أن يحدد أعداد المفقودين والمشردين. لكن منظمة الصحة العالمية قالت إن الرقم النهائي هو 4333 قتيلا، إلى جانب 8500 مفقود و42 ألفا و245 مشردا فقدوا مساكنهم.
وإثر الكارثة، قررت سلطة حفتر، نهاية سبتمبر من العام الماضي، إنشاء جهاز إعمار تحت مسمى "صندوق إعمار مدينة درنة والمناطق المتضررة"، وتولاه بلقاسم أحد أنجال حفتر بموافقة مجلس النواب الذي وضع عشرة مليارات دينار ليبي كرأسمال أولي، وصلاحيات مطلقة للتصرف في موارد ضخمة لعشرات المؤسسات الخدمية والمالية التي نقلت لتبعية الصندوق.
وفي الوقت الذي بدأت فيه لجنة محلية بالمدينة في صرف تعويضات مالية لمن فقدوا منازلهم في مدينة درنة، أطلق صندوق إعمار المدينة والمناطق المجاورة لها عشرات مشاريع إعادة إعمار درنة، تزامنا مع إعلانات عن توقيع عقود مع شركات عربية ودولية ضخمة للبدء في تنفيذ تلك المشروعات، أكبرها ربط ضفتي درنة بخمسة جسور، وصيانة عدد من المؤسسات التعليمية والخدمية وإنشاء مجمعات للوحدات السكنية.
افتتاح مشروعات قليلة في درنة
وعلى الرغم من أن الصندوق أعلن، خلال الأشهر الماضية، أن 60% من 243 مشروعا بدرنة قد اكتملت، إلا أنه لم يفتتح منها في الذكرى الأولى للكارثة إلا مستشفى ومدرسة ومسجدا جميعها كانت في طور الصيانة.
وفي حفل نظمه بلقاسم حفتر بمشاركة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، مساء أول من أمس الثلاثاء، تم خلاله افتتاح مدرستين للتعليم الأساسي، ومسجد الصحابة، ومستوصف الهريش، فيما ينتظر أن يشارك حفتر في وقت لاحق في حفل لتوزيع شقق عمارات تقع على طرف المدينة الغربي.
يشير المهندس المدني جبريل المهيوب، إلى أن العمارات كانت ضمن مشروعات سابقة متوقفة، وتم استكمالها لتكون ضمن مشروعات الإنماء الحالية في المدينة.
ويستدرك المهيوب، في حديثه لـ"العربي الجديد"، بالقول: "لا ننكر وجود ملامح مشاريع إعمار واسعة لتغيير وجه المدينة"، لكنه يعبّر عن مخاوف قد تنتج عن الإسراع في الإنجاز، ما يؤثر على الجانب الفني ومتانة الأبنية بمرور الوقت.
ويعبّر عن مخاوف من إمكانية استثمار المشاريع الإنمائية "لحصد مكاسب سياسية"، مشيرا إلى أن إحدى المدرستين تمت إزالتها بالكامل وأعيد بناؤها في ستة أشهر فقط لتفتح بواسطة شركة محلية.
وتتصل مخاوف المهيوب بالغموض المحيط بحقيقة مشاريع الإعمار التي بلغت 243 مشروعا، متسائلا: "من يقف وراءها على وجه الحقيقة؟ فمهما كانت قدرة الصندوق المالية كبيرة فلن تستوعب الصرف على هذا العدد الهائل من المشاريع، والأرجح أن هناك مستثمرين أجانب ومن العرب امتلكوا عقودا للاستثمار في المدينة، وما يخيف حقا هو عدم الإعلان عنهم من جانب، وعدم الإعلان عن خطة هذه المشاريع ومواقعها في المدينة".
ووفقا لإعلانات صندوق إعمار درنة، فإن "المشاريع القائمة داخل المدينة"، تشمل 11 مشروعا، هي "مشاريع المرافق التعليمية، والمرافق الصحية، والمنشآت الرياضية، والطرق والبنية التحتية، والكهرباء والإنارة، والحدائق والمنتزهات، والجسور والكباري، والفنادق، والإسكان العام، وصيانة الواجهات، وكورنيش المدينة".
مكاسب سياسية
ويتساءل المهيوب حيالها بالقول: "أين ستنفذ كل هذه المشاريع الضخمة، فسعة المدينة محدودة بسبب التضاريس التي تحصرها في مساحة ضيقة بين الجبل والبحر. كما أن المساحة التي دمرتها السيول وتجري فيها مشاريع الإعمار حاليا هي ربع المدينة فقط".
ويثير المهيوب سؤالا آخر حول شمول صندوق الإعمار المناطق المجاورة لمدينة درنة والتي تضررت بسيول العاصفة فحسب "مسمى الصندوق يقتضي أن مشاريع الإعمار يجب أن تشملها، لكن ما يعلن عنه فقط مشاريع درنة"، معتبرا أن ذلك خوفا إضافيا آخر يتصل بإمكانية استغلال كارثة درنة التي استرعت انتباه كل العالم لحصد مكاسب سياسية، وإهمال غيرها.
ويشترك الناشط المدني أيوب القاضي مع المهيوب في مخاوفه، لافتا إلى أن سلطات حفتر والحكومة الخاضعة له لم تعلن حتى الآن عن أي جديد بشأن مرفق سدود درنة التي كانت سببا رئيسيا في كل ما حل بالمدينة، وسببا في مشاريع الإعمار.
وفي يوليو الماضي، حكمت محكمة الجنايات بطرابلس على 12 مسؤولا ليبيا بالحبس لمدد مختلفة، بعد ثبوت صلتهم باهتراء سدود مدينة درنة، على الرغم من صرف الدولة مبالغ طائلة لصيانتها وتقويتها لصد المياه عن المدينة.
ويؤكد القاضي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن سدي وادي درنة لا يزالان على حالهما، متسائلا: "ما الذي سيحمي المدينة من كارثة أخرى ونحن على أبواب فصلي الخريف والشتاء، والتحولات المناخية تزيد كل يوم؟"، مضيفا أن "حالة عدم اليقين في كل شيء تزيد من القلق من عدم جدية السلطات في رأب الصدع الذي تعانيه المدينة، خاصة الشرخ الاجتماعي الذي لن ينفع مع مشاريع الإعمار بسبب خطط التعويض العشوائية للمواطنين الذين فقدوا منازلهم وممتلكاتهم".
ويلفت القاضي إلى أن عدم الإعلان عن الأعداد الحقيقية لضحايا الفيضانات "لا يقف وراءه تكتم متعمد، بل عجز عن الإحصاء، وربما عدم الرغبة من أصله، لأنه سيرتب أموالا إضافية للتعويض من جهة، ومشكلة قانونية أساسية في الملكية الخاصة للأراضي التي ستقام عليها مشاريع الإعمار، لا سيما إذا كان الأمر متعلقا بسعي الحكومة في تمليك هذه الأراضي لمستثمرين أجانب لتنفيذ مشروعات الإعمار عليها".
متاجرة بإعادة الإعمار
وحتى الآن، حسب شهادة القاضي، لا تعمل في مدينة درنة سوى الشركات المحلية ذات القدرة المحدود على مواجهة الدمار الذي لحق بالمدينة، ولذا فهي تقتصر على مشاريع الصيانة فقط، بالإضافة إلى بعض الشركات المصرية والتركية التي تعمل في مشروعات البنية التحتية، كبناء جسور رابطة بين ضفتي المدينة وغيرها من المشروعات التي تتطلب وقتا أطول لإنجازها.
ويطرح القاضي سؤالا يتعلق بمصادر تمويل هذه المشروعات، في ظل ذهاب سلطة حفتر لضم مناطق أخرى في الجنوب ووسط البلاد لصندوق الإعمار، لافتا إلى أن مبلغ 10 مليارات دينار "مبلغ ضخم جدا، ويكاد يكون كافيا لإحداث تغيير كبير، لكن تبقى مسألة الرقابة على الصرف وقنوات التمويل غير واضحة، ما يجعل مبدأ الشفافية والإفصاح مغيبا تماما".
ويرى القاضي أن وقوع مأساة درنة والمناطق المجاورة لها في مفاصل الصراع القائم بين الأطراف السياسية "حوّلها إلى سلعة للمتاجرة السياسية، فذهاب مؤشر الإعمار لسلطات الشرق دفع سلطات طرابلس إلى افتعال أزمة المصرف المركزي لوقف تدفق الأموال لتلك المشاريع، لعرقلة محاولات سلطة حفتر استغلال ملف الإعمار للدعاية الشعبية وتحسين صورته السابقة".