لماذا أصبح الدولار مقياس القيمة ومخزنها في مصر؟

27 يونيو 2024
أوراق نقدية بالجنيه المصري والدولار، 25 أغسطس 2022 (خالد دسوقي/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ارتفاع الأسعار في مصر يُعزى جزئيًا إلى النفوذ الأمريكي وارتفاع الفائدة من قبل الفيدرالي الأمريكي، لكن الأسباب المحلية مثل التبعية الاقتصادية والاعتماد الكبير على الاستيراد تلعب دورًا رئيسيًا في تعميق هذا التأثير.
- التبعية الاقتصادية لمصر تجعلها مرتبطة بالدولار، مما يزيد من هيمنته على الاقتصاد المصري ويضعف الثقة بالجنيه المصري، مما يؤدي إلى تفاقم العجز التجاري والديون الخارجية.
- لمواجهة هذه التحديات، يجب على مصر تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة تشمل تقليل التبعية الاقتصادية، تعزيز الإنتاج المحلي، تحسين البنية التحتية الصناعية، وتطوير قدرات تكنولوجية مستقلة لتقليل الاعتماد على الاستيراد وتعزيز السيادة النقدية.

أصبحت إحدى النوادر الرائجة حول ارتفاعات الأسعار في مصر مؤخراً، أنه كلما سأل مستهلك أحد التجار، حتى لو كان مجرد بائع جائل بسيط يبيع سلعاً محلية بدائية، عن سبب رفعه المتتالي والمتسارع للأسعار، قال الأخير إن "الفيدرالي رفع الفايدة"، ليتساءل المستهلك في عَجب عن علاقة سعر كيلو برتقال عم محمود وربطة جرجير الحجة راوية في مجاهل الدلتا المصرية وأعمق قُراها النائية بقرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) وانعكاس سياسة الدولار على الجنيه، بل كيف عرفوا به أساساً!

وتتمحور الإجابة السريعة التي تُغلق طريق الفهم الأعمق للمسألة حول التأثير الاقتصادي الأميركي وهيمنته النقدية العالمية المُتمركزة في الدور العالمي للدولار وما شابه من أسباب في ذلك المستوى النقدي، مما يبدو أسباباً عامة عالمية، خارجية الطابع، لا تتصل بأيّ خصوصية مصرية، ولا تملك مصر حيالها قدرةً ولا تأثيراً.

لكن الواقع أن هناك أسباباً أخرى أعمق، محلية الأصل، تعمّق من هذا التغوّل الدولاري على الواقع النقدي المصري؛ حدّ تحوّله إلى مقياس القيمة ومخزنها بكامل الاقتصاد، ليس في الشهور والسنوات الأخيرة فقط (عندما ظهر ذلك التغوّل بفجاجة ساحقة مع اتجاهات دولرة صريحة رافقت موجات الهبوط المتسارعة في سعر صرف الجنيه واستفحال التضخّم وتفشّي السوق السوداء ..إلخ)، بل ظهر منذ زمن طويل في الحقيقة، لكن كان الاستقرار والوفرة النسبيان وانخفاض حدّة الضغط الاقتصادي والنقدي يخفيان ذلك التغوّل وما يتضمّنه من حقيقة واقع الجنيه المصري عملةً منقوصة السيادة النقدية، تؤدي وظيفة واحدة فعلياً من الوظائف التقليدية للنقود، هي وظيفة "وسيط التبادل" فقط، في حين ينتهك الدولار الوظيفتين الأهم بعدها بدرجة أو بأخرى، وهما وظيفتا "مقياس القيمة" و"مخزن القيمة".

يعني ذلك، قبل أن نتطرّق إلى الجذور المحلية لهذه الحالة، أن هذا التغوّل الدولاري على الوجه النقدي للاقتصاد المصري ليس قدراً سماوياً ولا قانوناً فيزيائياً، ولا جزءاً حتمياً من النظام الدولي، مما يخرج عن قدرة أي دولة على مجابهته، بل هو، في أغلبه، نتاج واقع اقتصادي داخلي يمكن، تدريجياً وعلى الأقل، التخفيف من حدّته وحصره في نطاقات أضيق، حتى وإن كان ذلك الدولار مدعوماً بمنظمات دولية وعلاقات دبلوماسية، وفي الشكل الفج الأخير، بالطائرات والبارجات الأميركية الرابضة حول حقول النفط والغاز وعلى مفاصل خطوط التجارة والملاحة الدولية.

وأول الأسباب، والجذر الأساسي للحالة المصرية، هو التبعية الاقتصادية بأشمل معانيها، والتي تتجسّد في أعمق مستوياتها في اعتماد التجديد الاجتماعي للإنتاج أو إعادة إنتاج الاقتصاد بمُجمله على الخارج، مُمثلةً في حاجة الاقتصاد الثابتة إلى استيراد رأس المال والتكنولوجيا من الخارج لضمان استمرار الإنتاج في كل قطاعاته بلا استثناء؛ لعجزه عن إنتاجهما محلياً؛ نتيجة لغياب قطاع السلع الرأسمالية أو ما يُعرف بالآلات الأمهات، وبطبيعة الحال، لعدم وجود قدرات تكنولوجية مُستقلة من الأساس.

تجعل هذه التبعية الاقتصاد مُقيدًا تقنياً وإنتاجياً ومرتبطاً تكاليفياً وسعرياً، بهياكل إنتاج الخارج المُتعامل بالدولار عموماً، ولدول إنتاج هذه السلع الرأسمالية وما يتصل بها من مُستلزمات إنتاج خصوصاً، وهو الارتباط السعري الذي يزيد طردياً بقدر اعتماد العمليات الإنتاجية المحلية على العمليات الإنتاجية الخارجية، خصوصاً مع ما يرتّبه كذلك من حاجة حتمية إلى توفير الدولار عموماً للحصول على هذه المنتجات؛ ما يفرض هيمنته على أغلب معاملات الاستيراد والتصدير الأخرى، فضلاً عن محفظة النقد الأجنبي الوطنية عموماً.

التغوّل الدولاري على الوجه النقدي للاقتصاد المصري ليس قدراً سماوياً ولا قانوناً فيزيائياً، ولا جزءاً حتمياً من النظام الدولي، مما يخرج عن قدرة أي دولة على مجابهته

يمثل هذا الإطار الكيفي الأساسي للإشكالية، فكلما كانت البنية الصناعية ببلد ما أكثر تخلفاً، أي أقل عمقاً صناعياً، وأقرب إلى المستوى الاستهلاكي الخفيف كما هو الحال في مصر كونها بلداً لا يزال شبه صناعي؛ كان التغوّل الخارجي على السيادة النقدية الوطنية أكثر احتمالية وسهولة، فضلاً عن العجز الخارجي المُزمن والتدهور المستمر في قيمة العملة الوطنية (باستثناء البلدان الغنية بالموارد بوصفها حالة خاصة)؛ ولهذا عادةً ما تعجز النقود في بلدان الأطراف التابعة عموماً عن القيام بكل وظائفها شأن نظيرتها بالمراكز الرأسمالية المتقدمة، الأمر الذي زاد صعوبةً وتعقيداً، حتى على الأخيرة الأفضل حالاً، في ظل اتساع العولمة المالية وحرية حركة رؤوس الأموال عالمياً.

وجه آخر من وجوه التجديد الاجتماعي للإنتاج هو التجديد الاجتماعي لقوة العمل، أي مصدر توفير المنتجات الغذائية الضرورية وطريقتها لإعالة إنتاج القوة العاملة وإعادتها، مُجسّدةً في سلّة السلع الأجرية، والتي كلما زاد الاعتماد على الخارج في توفير قدر منها، أي كلما زادت الفجوة الغذائية؛ زاد اعتماد تجديد قوة العمل على الخارج، وزاد معه الارتباط التكاليفي والسعري به؛ بما يعني اعتماد جزء معتبر من الدخول الحقيقية للمواطنين وتأثّره، المُوجّه تحديداً إلى الغذاء والدواء الأساسي، على سلع مُستوردة من الخارج مُقوّمة بالدولار؛ ما ينقل كل التفاعلات والتقلّبات الخاصة بالأخير إلى دخول المواطنين، وتمركزه ضمنها معياراً نقدياً لمستوياتها الحقيقية؛ ومن ثم انتقالها إلى كامل هيكل الأسعار المحلي عبر قناة تحديد الأجور، ومنها إلى كامل هيكل الدخول.

وهذا ما يفسّر جزءاً من دوافع عم محمود والحجة راوية سالفي الذكر لزيادة أسعار منتجاتهما وخدماتهما المحلّية تماماً بالتوازي مع ارتفاع الدولار ورفع الفيدرالي للفائدة، من دون أيّ حاجة منهما إلى متابعة أيّ من ذلك أو فهمه، بل بمجرد التكيّف والاستجابة لتغيّرات الأسعار المحلية المتأثّرة بهما، بهدف الحفاظ مثلهم مثل غيرهم على دخولهم الحقيقية؛ فهم في النهاية يتعاملون في سوق أسعار الغالبية العظمى من سلعه متأثّرة ومُقوّمة بالدولار تأثراً مباشراً (عبر الاستيراد الصِّرف) أو غير مباشر (عبر الإنتاج بآلات ومكوّنات مُستوردة كلياً أو جزئياً)؛ ما يعني تأثّر دخولهم النهائية -بوصفها قيماً استهلاكية حقيقية- بتغيّرات الدولار، وعمله في النهاية مقياسَ قيمة ومؤشرَ حركة، تقيس به وتعتمد عليه الدخول النقدية في محاولتها ملاحقة تغيّرات الأسعار.

وينتج عن الوجهين السابقين للتجديد الاجتماعي التابع للإنتاج، السبب الثاني لحالة تغوّل الدولار، وهو حالة العجز التجاري المُزمن التي تعانيها مصر، والتي لا تجعلها فقط في حاجة دائمة إلى الدولار لسداد التزامات الخارج، بل تخلق ضغطاً دائماً على الثقة الخارجية طويلة الأجل بالعملة الوطنية؛ ما يفرض استناداً دائماً على الدولار مقياسَ قيمة في جزء معتبر من التعاملات على أرض البلد، ما دام أحد أطرافها أجنبياً، حتى لو تمّت المعاملة ظاهرياً وقانونياً بالعملة الوطنية.

لعلّ المفارقة المؤسفة في الممارسات الأخيرة خصوصاً، أنها من حيث تحاول حل التأزّم في المعروض الدولاري المحلي في الأجل القصير لا غير، تعزّز هيمنته على الواقع النقدي المصري

ومع تراكم أعباء تحمّل العجز التجاري المُزمن عبر السنين، مع القروض الخارجية عموماً أياً كانت أسبابها، يبرز السبب الثالث للحالة المذكورة، مُجسّداً في رصيد الديون الخارجية المُقوّمة بالدولار، بمساهمته عموماً في ترسيخ المكانة الخاصة للدولار في احتياطيات النقد الأجنبي الوطنية ومحفظته، خصوصاً في رفع الطلب الوطني عليه وزيادة المعاملات به بقيادة الدولة نفسها، باضطرارها إلى التعامل المُفرط به في السوق المحلي، سواء بشكل مباشر بشراء الدولار من النظام المصرفي وحتى من السوق السوداء أحياناً (باعتراف المسؤولين الرسميين أنفسهم)، أو بشكل غير مباشر عبر إتمامها التعامل في بعضِ السلع والخدمات والرسوم التي تتعامل فيها الدولة نفسها بصفتها الرسمية بالدولار (كبيع العقارات للمصريين في الخارج بالدولار، وكدفع غرامة التخلّف عن التجنيد بالدولار وغيرها).

ولعلّ المفارقة المؤسفة في الممارسات الأخيرة خصوصاً، أنها من حيث تحاول حل التأزّم في المعروض الدولاري المحلي في الأجل القصير لا غير، تعزّز هيمنته على الواقع النقدي المصري، وتؤثّر سلباً على الثقة الداخلية والخارجية بالجنيه؛ لتزيد المشكلة عمقاً وصعوبة في الأجل الطويل، في استمرار لنهج "من اليد إلى الفهم" الضار قصير النظر، الذي لطالما وصف به مسؤولو المنظمات الدولية السياسات الاقتصادية والعامة المصرية.

وما يزيد الطين بلة، ويفاقم مدى التغوّل النقدي الدولاري ووتيرته، ويدخل كذلك في نطاق إشكالات السياسات الحكومية، هو السبب الرابع، صارخ الوضوح في العقد الأخير بالخصوص، المتعلّق بتوليفة السياسة المالية والنقدية مُفرطة الاعتماد على كل من التمويل بالعجز أو التمويل المصرفي وطباعة النقد أو ضريبة التضخّم، بما يجمعها جميعاً من تحويل مُنظم غير طوعي للقوة الشرائية من أيدي المواطنين إلى الحكومة عبر قناة العملة الوطنية، التي تمثل في نهاية المطاف تعاقداً نقدياً بين الحكومة والمواطن على معيار للمبادلات ومخزن للقيم في الاقتصاد، تنقضه الحكومة وتخونه يومياً بهذه السياسة الجبائية الخبيثة قصيرة النظر.

ورغم وجود قدر من الاضطرار في العجز المالي المُزمن للحكومة المصرية، وأن أغلب حكومات العالم ليست بريئة من استخدام ضريبة التضخّم النقدية، فإن الفارق يظل هائلاً بين ما هو جزء من ضرورات إدارة الأزمة الحتمية للنظام الرأسمالي من جهة، وما هو سوء إدارة صريح ومنطق جبائي مُجحِف في الحالة المصرية من جهة أخرى، فإدارة اختلالات الرأسمالية بسياسات استهداف تضخّم عقلانية شيء، وسياسة الجباية بالتضخّم الأقرب لحلب بقرة حتى تدرّ دماً شيء آخر!

حلّ مُعضلة مصر الاقتصادية لا يمكن أن يكون نقدياً أو مالياً بالأساس كما يتجلّى في ممارسة الحكومة الفعلية، بغض النظر عن رطاناتها الخطابية التي لا تنتهي عن الإنتاج

ينقلنا هذا إلى السبب الخامس للحالة، الذي يمثل أظهر الأسباب وأوضحها مؤخراً بالخصوص، بينما هو نتاج لكل الأسباب السابقة، ولمُجمل الأداء الاقتصادي والسياسي في البلد، وهو زوال الوهم النقدي، مُمثلاً في ضعف الثقة بالعملة الوطنية وتراجع الإقبال على أدواتها المالية وأوعيتها الادخارية (في ما يخص الفئات المتزايدة الأكثر وعياً ببدائلها والأقل اضطراراً إليها بالطبع)، حيث لم تعد فوائد الودائع مهما ارتفعت تقنع أغلب المودعين بالاطمئنان إلى جدوى شهاداتهم الاستثمارية وسلامة قوتهم الشرائية الحقيقية، بعد صدمات التعويم القاسية المتتالية، بل على النقيض، أصبحت الفوائد المرتفعة بحدّ ذاتها سبباً لمزيد من التشاؤم وعدم الاطمئنان؛ ومن ثم الاتجاه إلى أصول مالية وعملات نقدية أخرى، إذ يدفع تراجع الثقة بإمكانية استقرار القوة الشرائية للعملة المواطنين إلى تحويل أغلب مدخراتهم الخاملة بعيداً عن العملة الوطنية، سواء إلى ذهب أو عقارات أو سلع أو حتى عملات أجنبية أخرى يأتي على رأسها الدولار؛ ليقتطع ذلك كامل وظيفة مخزن القيمة من الجنيه المصري.

ولسنا في حاجة إلى مناقشة خطورة تغوّل دولاري كهذا على السيادة النقدية المصرية، وتحوّل الدولار إلى مقياس القيمة ومخزنها في الاقتصاد (وحتى أصبح وسيط التبادل في بعض المعاملات على نطاق لا يزال محدوداً لحسن الحظ)، فالأمر يتجاوز رمزيات الكرامة الوطنية، إلى مخاطر فقدان تلك السيادة كلياً؛ بعدم استقلال السياسة النقدية وتعميق التبعية لمصالح الخارج ومفاعيله؛ ومن ثم العجز عن الاستخدام الإيجابي الفعّال لإحدى أهم أدوات السياسة الاقتصادية في اقتصاد مأزوم بأمسّ الحاجة إلى كل أدواته.

كما أن الخُلاصة الأساسية هنا، كما يظهر في كل الأسباب المذكورة، أن حلّ مُعضلة مصر الاقتصادية لا يمكن أن يكون نقدياً أو مالياً بالأساس كما يتجلّى في ممارسة الحكومة الفعلية، بغض النظر عن رطاناتها الخطابية التي لا تنتهي عن الإنتاج، بل إن حل المشكلة النقدية نفسها ليس نقدياً في جوهره!

المساهمون