لبنان وسيناريو السقوط الحر

15 يوليو 2022
النفوذ المالي للمصارف أجبر الحكومة اللبنانية على تحميل الشعب خسائرها (getty)
+ الخط -

أبلغ رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانيّة، نجيب ميقاتي، البرلمان نيّته إجراء بعض التعديلات على خطّة حكومته للتعافي المالي، بما يتجاوب مع التحفّظات التي أبدتها جمعيّة المصارف على الخطّة.

التعديلات التي تحدّث عنها ميقاتي، شملت تحديدًا استحداث "صندوق تعافٍ" تموّله الدولة اللبنانيّة من فوائض ميزانيتها، بما يسمح باستعمال هذه الأموال لسداد جزء من التزامات المصارف لكبار المودعين.
وبحسب التسريبات الإعلاميّة، أبلغ ميقاتي النوّاب أن الفكرة ستقوم على نقل التزامات القطاع المصرفي لهذه الشريحة من المودعين من ميزانيّات المصارف إلى ميزانيّة هذا الصندوق، على أن تقع مسؤوليّة التعامل مع هذه الالتزامات على كاهل الدولة في المستقبل.
هكذا، رضخ رئيس الحكومة لأولويّات جمعيّة المصارف، التي شنّت في السابق حربا قاسية على خطة الحكومة عند إقرارها، بسبب عدم تضمين الخّطة بنودا تحمّل المال العام أو أصول الدولة كلفة التعامل مع الخسائر المصرفيّة، أو عبء سداد الأموال للمودعين.
وبما أن جمعيّة المصارف تملك سطوة استثنائيّة على مجريات الأمور، وتحديدًا من خلال اللوبي النيابي الفاعل الذي يعمل لصالحها، بالإضافة إلى نفوذها في الأوساط الإعلاميّة، كان من الواضح أنّ هجمة الجمعيّة على الخطة الحكوميّة ستكون كفيلة بعرقلتها، أو تأخير تنفيذها على الأقل.
ولهذا السبب، يبدو من الواضح أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال قرر المساومة، من خلال تضمين خطّة حكومته البنود التي ترضي جمعيّة المصارف، عوضًا عن خوض معركة كسر عظم مع نخبة ماليّة تملك نفوذها داخل النظام السياسي.
على أي حال، تبنّى ميقاتي مطلب استعمال المال العام للتعامل مع الخسائر المصرفيّة، كما طلبت جمعيّة المصارف تحت شعار "تحميل الدولة مسؤوليّتها"، لكن وفق آليّة مختلفة عن تلك التي تحدّثت عنها الجمعيّة.
فالجمعيّة سوّقت خلال الفترة الماضية مقترحا بات يُسمّى محليًّا بمشروع "الصندوق السيادي"، وهي فكرة تقوم على ضم مجموعة من المرافق والأصول العامّة إلى صندوق خاص، بهدف استثمارها واستعمال العوائد لإطفاء الخسائر المصرفيّة والسداد للمودعين. أمّا فكرة "صندوق التعافي" التي طرحها ميقاتي، فتقوم على رهن فوائض الميزانيّة العامّة بشكل مباشر لتمويل الصندوق، ما سيفرض مجموعة من الإجراءات التقشفيّة والزيادات الضريبيّة لتأمين هذه الفوائض.
لكن وبمعزل عن الآليّة، تبقى النتيجة واحدة. فبدلًا من تخصيص الموارد والأصول العامّة خلال فترة التصحيح المالي للتعامل مع الخسائر المجتمعيّة الناتجة من الانهيار، أي الخسائر التي تُعنى بانهيار شبكات الحماية الاجتماعيّة وتدهور حال البنية التحتيّة وخسارة قيمة تعويضات وأجور المقيمين، ستكون الدولة قد خصصت، بحسب هذه المقترحات، هذه الموارد للتعامل مع خسائر قطاع خاص، هو القطاع المصرفي.

وفي هذه الحالة، سيكون المستفيدون من هذا الإنفاق حلقة ضيّقة من أصحاب المصارف وكبار المودعين، خصوصًا أنّ تبديد المال العام بهذا الشكل يأتي بهدف تحييد هؤلاء تحديدًا عن تحمّل وزر الخسائر الناتجة من الانهيار المصرفي.
مع الإشارة إلى أنّ قيمة الأصول المتبقية داخل المصارف تكفي اليوم لتسديد قيمة كل وديعة إلى حدّ مبلغ يتراوح بين 100ألفٍ و150 ألف دولار، ما سيكفي لتسديد كامل مستحقات 88% من المودعين بالكامل (يمثلون أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة).
في الواقع، كان من الواضح أنّ ثمّة تسوية ما نضجت بين ميقاتي وجمعيّة المصارف، بما أفضى إلى تقديم ميقاتي هذا المقترح في مجلس النوّاب. فبعد أسابيع من التصعيد الذي قامت به إعلاميًّا جمعيّة المصارف، في وجه الخطّة الماليّة الحكوميّة والتفاهم على مستوى الموظفين المعقود مع صندوق النقد، وبعد المطالبة بفكرة "الصندوق السيادي" ووضع اليد على أصول الدولة للتعامل مع الخسائر، عادت الجمعيّة في آخر بياناتها للتهدئة والتشديد على أهميّة التفاهم مع صندوق النقد.
كما ذهبت الجمعيّة إلى استبدال المطالبة بالصندوق السيادي ووضع اليد على أصول الدولة واستثمارها ضمن الصندوق، بفكرة رهن إيرادات الدولة المستقلبيّة.
وهكذا، لاقى مقترح ميقاتي الموقف الهادئ الذي تبناه آخر بيانات جمعيّة المصارف، فتبنى ميقاتي فكرة "صندوق التعافي"، الذي يقوم تحديدًا على رهن فوائض الموازنة العامّة وإيرادات الدولة المستقبليّة، تمامًا كما طلب بيان الجمعيّة الأخير.
على أي حال، لم تعد خطورة التطوّرات تنحصر في تداعيات مقترحات ميقاتي على سياسة الدولة الماليّة في المستقبل، بل بات التفاهم المبدئي المعقود على مستوى الموظفين بين لبنان وصندوق النقد الدولي على المحك، نتيجة هذه المقترحات.
فالخطّة الماليّة التي أقرّتها الحكومة مثّلت أحد أركان هذا التفاهم المبدئي، الذي يرتبط بشروط عديدة قبل انتقال البلاد إلى مرحلة الاتفاق النهائي مع صندوق النقد.
وفي حال تعديل هذه الخطّة، فمن الأكيد أن الصندوق سيعيد النظر في التفاهم المبدئي نفسه، بما يعني إمكانيّة العودة عنه إذا تعارضت التعديلات مع معايير الصندوق لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
ومن المعلوم أن صندوق النقد تشدد منذ البداية في رفض أي خطّة قد تنطوي على تبديد لأموال عامّة، في سبيل إطفاء الخسائر المصرفيّة، وهو ما دفع الحكومة أساسًا إلى تفادي تضمين الخطّة الماليّة الأساسيّة المقترحات التي طالبت بها جمعيّة المصارف سابقًا. وبذلك، من المتوقّع أن تكون فكرة ميقاتي الجديدة تحديدًا أحد أسباب عرقلة مسار الاتفاق مع صندوق النقد.
الإشكاليّة الأساسيّة تكمن في قيام الدولة اللبنانيّة بحصر جميع رهاناتها في الوقت الراهن بالاتفاق مع الصندوق، الذي يُفترض أن يمثّل شهادة حسن السلوك التي يحتاجها لبنان للعودة إلى أسواق المال العالميّة، والتفاوض مع دائنيه المحليين والأجانب، ناهيك عن استقطاب الاستثمارات في مرحلة التصحيح المالي.
وبغياب أي رهان آخر لا يرتبط بالاتفاق مع الصندوق، سيؤدّي إسقاط مسار المفاوضات مع صندوق النقد إلى إطلاق العنان لفترة طويلة من السقوط الاقتصادي الحر، بغياب أي تصوّر لكيفية الشروع بعمليّة التصحيح المالي والنقدي.

مع الإشارة إلى أنّ عمليّة صياغة خطة تصحيح بنيويّة شاملة لا ترتبط بالاتفاق مع صندوق النقد كانت ممكنة في بداية الأزمة، إلا أنّ السلطة في لبنان تغاضت عن هذا المسار.
ولذلك، فُرض صندوق النقد اليوم كحل وحيد بعد تدهور جميع المؤشّرات النقديّة والماليّة، وبعد خسارة الدولة ثقة الأسواق بقدرتها على صياغة حلول لا يشرف على تنفيذها صندوق النقد.
في خلاصة الأمر، ما يفعله ميقاتي اليوم من ذهاب باتجاه تعديل خطة حكومته الماليّة، والسير بما تطلبه جمعيّة المصارف، لن يكون سوى مغامرة مكلفة وغير محسوبة النتائج.
كل هذه التطورات الخطرة، تأتي اليوم مدفوعةً برفض كبار المساهمين في القطاع المصرفي لفكرة تحمّل نصيبهم من الخسائر، من رساميلهم، ومحاولة إلقاء عبء التعامل مع هذه الخسائر على المال العام.
وبذلك، يتكرر اليوم ما حصل عام 2020، يوم أسقطت هذه الحسابات والمصالح خطّة الحكومة الماليّة، ومضت البلاد بعدها لأكثر من سنتين في مرحلة السقوط المتفلّت من أي ضوابط.

المساهمون