كيف وقفت جنوب أفريقيا ضد إسرائيل؟

29 يناير 2024
رئيس جنوب أفريقيا اتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة (فرانس برس)
+ الخط -

في 29 ديسمبر/كانون الأول الماضي، قدمت حكومة جنوب أفريقيا دعوى قضائية تاريخية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية تتهمها بارتكاب انتهاكات ضد التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية في قطاع غزة. وفقا للدعوى، فإن أفعال إسرائيل "تعتبر ذات طابع إبادة جماعية، لأنها ترتكب بالقصد المحدد" لتدمير الفلسطينيين في غزة، كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع والمجموعة العرقية والإثنية.

وقالت جنوب أفريقيا إن إسرائيل "تورطت، وتتورط، وتخاطر بالتورط في المزيد من أعمال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة". وطالبت المحكمة بالإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل حماية الفلسطينيين في غزة "من أي ضرر جسيم إضافي وغير قابل للإصلاح" بموجب الاتفاقية ولضمان "امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية في قطاع غزة، ومنعها والمعاقبة عليها".

لماذا جنوب أفريقيا؟

بعد تحريك جنوب أفريقيا دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، روج الإعلام العربي لأن السر في مساندة دولة جنوب أفريقيا للقضية الفلسطينية يعود إلى معاناة جنوب أفريقيا لعقود كثيرة من نظام الفصل العنصري، لذلك فهي أكثر الدول معرفة باضطهاد دولة لدولة أخرى أو لشعب آخر.

لكن كثيرأ من الدول تعرضت للاحتلال الأجنبي والقتل والفصل العنصري بدرجات مختلفة، بما فيها كثير من الدول العربية، ورغم ذلك، لم تجرؤ دولة من هذه الدول على أن تحذو حذو جنوب أفريقيا وتجر إسرائيل لمحكمة العدل الدولية. وفي تقديري، هناك عوامل أخرى دفعت حكومة جنوب أفريقيا، دون غيرها من الحكومات العربية، في سابقتها التاريخية لجر إسرائيل لمحكمة العدل الدولية.

وهي خطوة محفوفة بالمخاطر، كما وصفها رئيس جنوب أفريقيا، وقال نحن بلد صغير ولدينا اقتصاد صغير، وقد يهاجموننا.

أهم هذه العوامل، قوة اقتصاد جنوب أفريقيا في خريطة الاقتصاد العالمي. حيث تمتلك عضوية في مجموعة البريكس، التي تضم الصين وروسيا والبرازيل والهند. وتبلغ قيمة اقتصادات المجموعة أكثر من 28.5 تريليون دولار، ما يمثل 28% من الاقتصاد العالمي.

وتنتج المجموعة نحو 44% من النفط الخام في العالم. وتستقل مجموعة البريكس عن سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدوليين، وتعتبرها أدوات للدول الغربية للهيمنة السياسية والاقتصادية على الدول الفقيرة.

كما احتلت جنوب أفريقيا المركز الثامن والثلاثين في سلم الاقتصاد العالمي عام 2022، وبلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي 419 مليار دولار، وحجم الصادرات 143 مليار دولار، وتملك احتياطيا نقديا بقيمة 50 مليار دولار. وتعتبر جنوب أفريقيا دولة صناعية بامتياز، فهي صاحبة أكبر اقتصاد صناعي والأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية والأكثر تنوعاً في القارة الأفريقية.

وهي من الدول التي يصنف دخل مواطنيها بالأعلى ضمن الدولة المتوسطة الدخل. ويعد اقتصاد جنوب أفريقيا أكبر من مثيله في ماليزيا، وهي صاحب أكبر اقتصاد جاذب لتدفقات الاستثمار الأجنبي في أفريقيا.

ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يتصدر الناتج المحلي الإجمالي للدولة قارة أفريقيا هذا العام، وأن يصل لأكثر من 401 مليار دولار، في مقابل 395 مليار دولار في نيجيريا و358 مليار دولار في مصر.

وبالتالي، فإن قوة اقتصاد جنوب أفريقيا وعضويتها في البريكس مكنتاها من الوقوف في وجه إسرائيل، دون خوف من تأثير نفوذها على شركاء جنوب أفريقيا التجاريين.

الاستقلال السياسي

استقلال جنوب أفريقيا سياسياً ورسوخ الديمقراطية، والتي لا تحظى بها دولة عربية واحدة في المنطقة، أكسباها الثقة لتجر إسرائيل بجرأة إلى محكمة العدل الدولية، دون أن تعمل حساباً للولايات المتحدة الأميركية، الشريك العسكري الأقوى والداعم الاقتصادي الأكبر والمحامي القانوني الأول لإسرائيل في مجلس الأمن، والتي تتهم جنوب أفريقيا بدعم روسيا بالسلاح في حربها مع أوكرانيا.

حتى أن البرلمان في جنوب أفريقيا كشف الوجه غير الإنساني لإسرائيل، وصوت لصالح إغلاق السفارة الإسرائيلية وقطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، واشترط موافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار والمشاركة في مفاوضات قبل عودة العلاقات، وهو ما لم تتجرأ أي دولة عربية على القيام به.

مكانة جنوب أفريقيا الراسخة في السيادة والديمقراطية، دعت الوزير في مجلس الحرب الإسرائيلي، بيني غانتس للتشهير بالتبعية السياسية والديكتاتورية المتفشية في المنطقة العربية في معرض مهاجمته جنوب أفريقيا بعد اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، واعتبر الاتهام تسييساً ساخراً ومشوهاً وخطيراً للعدالة الدولية، واتهمها بتشويه "الدولة الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط.

ولو حركت الدعوى حكومة عربية، لقدمت حكومة إسرئيل ضدها قائمة بجرائم، وليست جريمة واحدة، قتل وإبادة ارتكبتها تلك الحكومة العربية ضد مواطني دولتها.

ثأر تاريخي

في تقديري أن ثأراً تاريخياً بين النظام الحاكم في جنوب أفريقيا وبين إسرائيل ساهم في دفع الأولى لتحريك الدعوى. في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كانت إسرائيل تظهر في العلن معارضتها لسياسة الفصل العنصري التي نفذتها حكومة الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا على الأغلبية السوداء في الفترة بين سنة 1948 و1991.

ولكن في السر، كانت إسرائيل تمد الحكومة العنصرية بالأسلحة والذخائر وأجهزة القمع والدبابات. وشاركت شركات الأمن الإسرائيلية وعسكريون إسرائيليون في تدريب وتجهيز قوات الشرطة القمعية في جنوب أفريقيا بالعتاد والمعدات لقمع أصحاب الأرض من السكان السود.

وعلى مدى عقدين من الزمان، انتهكت إسرائيل قرار مجلس الأمن رقم 418 لسنة 1977 الذي يقضي بفرض حظر توريد الأسلحة لحكومة جنوب أفريقيا العنصرية، وهو التدبير الوحيد الذي أمكن اتخاذه ضدها في المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة رداً على أعمال القمع والأعمال الوحشية الجماعية في البلاد.

وعملت إسرائيل كوسيط لتوريد الأسلحة من الدول التي ترفض انتهاك القانون، ما مكن حكومة الفصل العنصري من إحكام قبضتها على السلطة واضطهاد الأغلبية السوداء.

وبالتالي، شكلت معاناة سكان جنوب أفريقيا من حكومة الأقلية البيضاء التي نفذت سياسة الفصل العنصري البغيضة نصف الحقيقة. أما النصف الآخر للمعاناة، فكان بسبب الدعم الإسرائيلي الكبير لحكومة الأقلية البيضاء في الاستمرار في سياسة الفصل العنصري لعقدين إضافيين. وجاءت فرصة تقديم إسرائيل لمحكمة العدل الدولية لتصفية الثأر القديم.

أضف إلى ذلك، معاناة رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا من سياسة التمييز العنصري خلال الفترة التي تعاونت فيها إسرائيل مع حكومة جنوب أفريقيا البيضاء، والتي انخرط خلالها مع زملائه في مقاومتها من خلال نقابة عمال المناجم التي أسسها، واعتُقل بسبب نشاطه السياسي مرتين، في سنة 1974 لمدة 11 شهراً، وفي سنة 1976 مدة ستة أشهر.

خذلان عربي

قامت جنوب أفريقيا بما لم تقم به أي دولة عربية أو إسلامية. ورغم مرور 114 يوماً على العدوان وسقوط أكثر من 26 ألف شهيد، وأكثر من 65 ألف جريح، ونزوح 1.9 مليون شخص، أي أكثر من 85% من السكان، في جميع أنحاء قطاع غزة، وفق وزارة الصحة في غزة، تخاذلت، أو جبنت، جميع الدول العربية عن اتخاذ موقف جماعي يناصر جنوب أفريقيا في دعواها ضد إسرائيل لارتكابها جرائم الإبادة الجماعية في غزة.

وباستثناء أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، لم يتهم زعيم عربي إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة حتى كتابة هذه السطور.

مع بداية العدوان في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، دعت دولة فلسطين لعقد اجتماع في جامعة الدول العربية لمناقشة سبل وقف العدوان على غزة. وبعد خمسة أيام كاملة من العدوان، انعقد اجتماع في الجامعة حضره ممثلون من المستوى السياسي الثاني، وشمل 17 وزير خارجية ووزير دولة من جميع الدول العربية، وجرى تداول حول سبل وقف العدوان الإسرائيلي وإيصال المساعدات الإنسانية بأسرع وقت ممكن.

ولكن، يقول مندوب فلسطين الدائم لدى الجامعة العربية، مهند العكلوك، إن القرار الذي صدر عن الجامعة لم يرق لمستوى الحدث وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب الآن بحق الشعب الفلسطيني. ومن المؤسف، أن القرار تضمن فقرات تساوي بين الضحية والجلاد، وبين المعتدي والمعتدى عليه.

وتحفظت العراق وسورية والجزائر وتونس وليبيا على القرار، باعتباره لا يصب بالكامل في مصلحة الفلسطينيين. كل ذلك بسبب تبعية حكومات تلك الدول للولايات المتحدة.

بعد شهر كامل من الاجتماع السابق، انعقدت القمة العربية الإسلامية المشتركة في العاصمة السعودية الرياض، لبحث العدوان على غزة. وانعقدت الآمال على الزعماء والرؤساء وأصحاب الجلالة والفخامة لاتخاذ إجراءات تصعيدية لوقف العدوان فوراً وإدخال المساعدات. ولكن المؤسف أيضاً، أن القادة اكتفوا بالتنديد بـ"الجرائم" التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في غزة، دون تسميتها "جرائم حرب وإبادة جماعية".

ولم يجرؤ أحد من الزعماء العرب أو المسلمين باتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، رغم أن المتحدثين باسم مؤسسات الأمم المتحدة أكدوا مراراً وتكراراً أن جيش العدوان العنصري الإسرائيلي يقوم بتدمير أحياء سكنية بالكامل، ومستشفيات ومدارس تابعة لأونروا ومحطات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، ويخلف عشرات آلاف الشهداء والجرحى، والإعلام يعرض جثث أطفال ونساء متفحمة على الشاشات، ويصف ما يقوم به جيش الاحتلال بجرائم إبادة جماعية متكاملة الأوصاف وفق تعريف القانون الدولي للإبادة الجماعية.

شجاعة رامافوزا

بعد القمة العربية الإسلامية بعشرة أيام، دعا رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا قادة مجموعة البريكس لقمة استثنائية، واتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في قطاع غزة، وحرمان السكان من الدواء والغذاء والماء والوقود، ودعا المجتمع الدولي إلى الاتفاق فوراً على إجراءات عاجلة لوقف فوري وكامل لإطلاق النار، ونشر قوة سريعة تابعة للأمم المتحدة لمراقبة وقف الأعمال القتالية وحماية المدنيين.

وفي تعليقه على رفع بلاده قضية "إبادة جماعية" ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، قال إنه لم يشعر قط بالفخر الذي يشعر به ذلك اليوم، وسنظل متمسكين بمبادئنا، ولن نكون أحراراً حقاً ما لم يتحرر الشعب الفلسطيني أيضاً.

ورغم مرور 114 يوماً على العدوان الإسرائيلي وسقوط الضحايا من الأطفال والنساء، لم تقتدِ أي قيادة عربية أو إسلامية بقيادة جنوب أفريقيا، وتتدخل فوراً، لا سمح الله بتعبير المتحدث باسم كتائب القسام، لوقف العدوان ورفع الحصار ووقف التجويع المتعمد.

المساهمون