في حديث تلفزيوني شهير لمهندس حرب أكتوبر 1973 ورئيس أركان الجيش المصرى وقت الحرب الفريق سعد الدين الشاذلي، رحمه الله، ذكر أن إسرائيل لا تتحمّل حربًا طويلة تتجاوز الستة أسابيع؛ لأسباب عديدة من بينها الاقتصاد الصغير نسبياً الذي تتداخل قواه العاملة بنسبة معتبرة مع القوات الاحتياطية للجيش، والتي يمثّل تغيبها الطويل في أرض المعارك خسارة مزدوجة للاقتصاد؛ بسبب التكاليف العسكرية المباشرة، وخسائر توقفها عن العمل.
وإذا كانت الدول الكبرى نفسها تتأثر اقتصادياً بتحويل الموارد والإنتاج للاستخدام العسكري بدلاً من المدني؛ فمن باب أولى أن يكون الأثر كبيراً في حالة دولة صغيرة جغرافياً وسكانياً كإسرائيل.
وكقاعدة عامة، تتجادل العلاقة بين الاقتصاد والحرب بحيث يؤثر كلٌ منهما في الآخر، فلا يكسب اقتصادُ ضعيف حربًا طويلة، وربما لا يكسب أي حرب، فيما لا تترك حربُ طويلة الاقتصاد قوياً.
حتى في الحالات الخاصة التي قد يستفيد فيها الاقتصاد من الحروب والمخاطر الجيوسياسية كالولايات المتحدة؛ بفضل مُجمعها العسكري-الصناعي وامتيازها النقدي المُتمثّل في الدولار كملاذ آمن دولياً؛ حيث تتراكم الخسائر عاجلاً أو آجلاً لتقضم من النمو المُحتمل للاقتصاد وتحمّله بأعباء ومديونيات طويلة الأجل، رغم عدم إصابة بنيانه المادي بأذى؛ بحكم عدم وصول الاعتداءات لأراضيه الوطنية، كما هي حال الولايات المتحدة الاستثنائية في التاريخ.
لكن ليس هذا هو حال إسرائيل، التي تفتقر للعمق الإستراتيجي بحكم الصِغر الشديد لمساحتها، التي لا تحتمل أيّ حرب جدّية بمقاييس حروب الدول الحقيقية؛ والذي يفسّر الهوس الغربي بإعطائها كافة أسباب التفوّق التكنولوجي الضخم على كافة جيرانها العرب؛ لتعويض هذا القصور البنيوي الخطير.
من جهة أخرى، المُجمع العسكري الصناعي الإسرائيلي وإن كان يستفيد بالحروب، ويسهم بقدر معتبر في النمو الاقتصادي الإسرائيلي، فإنه لا يمتلك نفس امتيازات نظيره الأميركي، فمهما استمر الدعم الغربي، فإنه لا يعادل امتلاك حكومته لعملة السيولة الدولية التي تمكّنه من الاستدانة اللانهائية وترحيل أغلب الالتزامات إلى الأبد تقريباً، بمعنى عدم اضطراره للسداد فعلياً -كصافي تدفقات- في الأجل المنظور، وربما غير المنظور كذلك.
وقد أظهرت حرب غزة أوجه القصور المذكورة بالاقتصاد الإسرائيلي، كما فعلت عملية طوفان الأقصى بأسطورته العسكرية والتكنولوجية، لكن استطالة الحرب بغزّة هي ما تطرح تحديات حقيقية على هذا الاقتصاد، الذي بدأ يعاني بشكل مؤثر، لحدّ انكماشه بالفعل بنسبة 11% في الربع الأخير من عام 2023.
هذا التضرّر السريع والمباشر يدفع بالبعض، مع أبعاده الأعمق وروافده الأوسع، للتوقّع بأن إسرائيل هي التي ستضطر لإيقاف الحرب في النهاية؛ بافتراضات تنطلق من عقلانية الإدارة السياسية بالطبع، والذي بدأت تظهر بوادره فعليًا بإعلان المتحدث العسكري باسم الجيش الإسرائيلي عودة بعض جنود الاحتلال لتخفيف الضغط عن الاقتصاد.
كذا ما وصفته شبكة سكاي نيوز بالتحذير شديد اللهجة من محافظ بنك إسرائيل المركزي أمير يارون لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بشأن الأولويات المالية التي يبدو الأخير غير مبال بها.
الخسائر المباشرة للحرب:
بخلاف التكاليف العسكرية المباشرة، فقد اضطرّت إسرائيل لتعبئة 360 ألفاً من قوات الاحتياط لأجل غير مُسمى، يعادلون ما يتراوح حسب أقل التقديرات 8% من القوة العاملة الإسرائيلية ويتجاوزون أي تعبئة مماثلة لأي حرب لإسرائيل منذ بداية الألفية، كما نقلت أكثر من 200 ألف مستوطن من مستوطنات الشمال على الحدود اللبنانية والجنوب بغلاف غزة إلى فنادق داخل إسرائيل، بما يمثلونه من فاقد عمل وإنتاجية وتكاليف إعاشة تتحمّلها الحكومة.
كذا فقد دخلت إسرائيل فيما يشبه حالة إغلاق كامل لمدة أسبوعين، وهرب منها كثير من العمالة الأجنبية، وبلغ إجمالي حالة الخمول التشغيلي المستمرة منذ بداية الحرب حوالي 20% من قوة العمل، كما تراجع مؤشر البورصة الرئيسية TA 35 من 1830 إلى 1600 خلال ثلاثة أسابيع رغم دعم بنك إسرائيل المركزي، الذي دعم إلى جانبه الشيكل بحوالي 11.5 مليار دولار لإيقاف نزيف سعر الصرف.
وقد توقّف حقل غاز تمار عن العمل حتى أواسط نوفمبر، والذي يمثل المصدر الرئيسي لتوليد الطاقة محلياً ولصادراتها الغازية لمصر، كما أضافت هجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر مزيداً من الضغط على الاقتصاد؛ عبر خسائر الملاحة واضطراب سلاسل وشبكات الإمداد، فضلاً عن تأثيرها المعنوي على أغلب التعاملات الخارجية مع إسرائيل.
وعلى المستوى الإجمالي، قُدّرت تكاليف الحرب بحوالي 18 مليار دولار حتى نهاية 2023، كما قدّرت صحيفة كالكاليست Calcalist، صحيفة الأعمال الإسرائيلية، بلوغ خسائر الحرب حوالي 50 مليار دولار، بما يعادل 10% تقريبًا من الناتج الإجمالي، إذا استمرت الحرب فقط ما بين خمسة وعشرة شهور، ما يقارب تقديرات بنك إسرائيل البالغة 58 مليار دولار تكاليف كلية للحرب، والذي خفض توقعاته للنمو عام 2024 من 3% إلى 1% فقط في أحسن الأحوال، دونما استبعاد لاحتمال الدخول في انكماش صاف.
الخسائر غير المباشرة:
لكن الخسائر المهمة حقاً هي الخسائر الكيفية والإستراتيجية، فكل الخسائر المباشرة لها حدود معروفة نسبيًا، كما يمكن تعويضها عاجلاً أو آجلاً؛ خصوصًا مع الدعم الأميركي غير المشروط، والمُقدر وصوله مبدئياً إلى ربع تكلفة الحرب، لكن الأولى تتغلغل في بنية وأداء الاقتصاد لمستويات أبعد بكثير، مرتبةً آثاراً أعمق وأطول آجلاً.
وخلافاً للآثار التي رصدتها التقارير المختلفة، من تراجع ثقة المستهلك واضطراب أنماط الاستهلاك والميل لتخزين السلع الأساسية والعزوف عن طلب السلع المعمرة والثانوية والخدمات الجانبية وضعف النشاط السياحي وإغلاق كثير من الشركات وهيمنة الأمن على الإنفاق الحكومي ووقف تنفيذ الاستثمارات الكبيرة والتركيز على النفقات التشغيلية وزيادة تكاليف التأمين وما شابه.
تتحدّد الخسائر غير المباشرة عموماً على ضوء الهيكل الاقتصادي بما يشمله من تركيب قطاعي محلي وبنية علاقات بالخارج ونمط اندماج في الاقتصاد العالمي؛ فهذا ما يحدّد شكل ومدى استجابة الاقتصاد للمؤثرات المختلفة، إيجابية كانت أم سلبية.
وعلى هذا الصعيد، أبرز ما يميّز هيكل الاقتصاد الإسرائيلي هو سيطرة قطاع الخدمات على أكثر من 80% من الاقتصاد، لكن ليس نتاجاً للانحراف الريعي للتغيّر الهيكلي كما هو حال أغلب الاقتصادات العربية، بل نتيجة لـ، وبالتوافق مع، التطوّر الكيفي الكبير للاقتصاد البالغ ما يقرب من نصف تريليون دولار؛ ما يتجلّى في، أبرز سمتين أخريين مرتبطتين: العلاقات الاقتصادية الكبيرة بالخارج والأهمية المعتبرة لقطاع التكنولوجيا.
ويسجّل حسين أبو النمل في دراسته "اتجاهات الاقتصاد الإسرائيلي 2010-2017" (مركز الجزيرة للدراسات، 2017) أنه من كل مائة دولار تُنتج بإسرائيل، تتصل 52 دولارا بالخارج استيراداً أو تصديراً، ما يعكس الارتباط الكبير بالخارج، ويتسق مع الاعتماد الجوهري على تدفقات الاستثمار الأجنبي.
وتظهر سيطرة الخدمات على السلع في نمط التوازن الخارجي، فطوال الفترة 2000-2015، نمت صادرات وواردات الخدمات أسرع من نظيرتها من السلع، كما أنه طوال الفترة 1980-2015، كان ميزان الخدمات إيجابياً، فيما كان ميزان السلع سلبياً، بل وبلغ فائض ميزان الخدمات ما يقرب من أربعة أضعاف عجز ميزان السلع.
ورغم إيجابية الفائض الكلي بحد ذاته، فإن درجة الانكشاف المرتفعة على الخارج وغلبة الطابع الخدمي عليه يؤديان لقدر من هشاشة النموذج الاقتصادي، خصوصاً في سياق الهشاشة النسبية للأمن الإسرائيلي.
أما عن أهمية قطاع التكنولوجيا، فهو القطاع الأكثر إنتاجية بالاقتصاد، الذي ينتج ما يقرب من خُمس الناتج المحلي الإجمالي ويشغّل 14% من القوة العاملة، ويقدم 30% من الضرائب و51% من الصادرات.
وهذا ما يعطيه تأثيراً معتبراً على مُجمل الأداء الاقتصادي، ما ظهر جلياً فيما سجلته الدراسات من أن ثلثيّ انخفاض الناتج الإجمالي أوائل الألفية 2000-2002 كان بسبب ركود قطاع التكنولوجيا العالية؛ ارتباطاً بـ، وبالتزامن مع، ركود نظيره ومُسانده الأكبر قطاع التكنولوجيا الأميركي؛ بما يؤكد كذلك الارتباط المرتفع بالخارج.
واتصالاً بالطبيعة التركّزية لهذا التكوين القطاعي المتقدم المرتبط بالخارج وغالب الخدمية؛ يغلب التركّز كذلك على التركيب السوسيوديمغرافي لإسرائيل، بما يعزّز من جهة مشكلة محدودية العمق الإستراتيجي، كما يعكس من جهة أخرى ارتفاع الهاجس الأمني وهشاشة الحدود الإسرائيلية، حيث يقيم ويعمل ما يقرب من نصف السكان ونصف الاقتصاد فيما يُعرف بتل أبيب الكبرى.
هذا التركّز بعيدًا عن مناطق التماس الحدودية المباشرة مع العرب يعطي قدراً من الأمن والاستقرار للداخل الإسرائيلي وبنيته التحتية، ويفسّر النجاح الاقتصادي الإسرائيلي رغم الاضطرابات طوال الثلاثة عقود الماضية، رغم عدم إفلاته من آثارها بالكامل، مع ما ظهر من بوادر لتراجع الإنتاجية مع أولى موجات التفجيرات داخل إسرائيل في التسعينيات.
الأمر الذي يرجح ازدياده مع تطوّر القدرات الصاروخية للمقاومة الفلسطينية واللبنانية؛ بما يفسّر الهوس الإسرائيلي مؤخراً بالقضاء على المقاومة ودعوات تفريغ الضفة وغزة؛ باعتبارها شروطاً لاستمرار إسرائيل بالوجود، على حد تعبير المحللين والمسؤولين الإسرائيليين.
وقد أثّرت الحرب في غزة، مُفاقمةً أثر المخاوف الناتجة من صدام حكومة نتنياهو مع المحكمة الدستورية، على ذلك المفصل الجوهري الذي ميّز تطور الاقتصاد الإسرائيلي طوال العقدين الماضيين، وهو تقاطع الاستثمار الأجنبي الكبير مع قطاع التكنولوجيا المتطوّر؛ حيث تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر على خلفية الاضطرابات.
كما تراجع معدل نمو شركات التكنولوجيا الجديدة من 1300-1400 شركة سنوياً إلى 400 فقط في العام الأخير، ما يمثل رجوعاً لعشرين عاماً إلى الوراء على حد تعبير المحللين الإسرائيليين؛ كونه نفس معدل عام 2003، كذا تأخرت أو أُلغيت الاتفاقات الاستثمارية لأكثر من 40% من شركات التقنية، وتمكنّت 10% منها فقط من عقد اجتماعات مع المستثمرين حسب صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
هذا من جهة تراجع الاستثمار في القطاع، أما من جهة الطلب، فقد عُلّق العديد من الطلبات أو أُلغي نهائيًا، ومن جهة التشغيل، فبخلاف الشركات التي أغلقت مصانعها مؤقتاً لقربها من المناطق الفلسطينة، والشركات التي تواجه مشكلات تشغيلية وتوريدية وتمويلية، شملت قوات الاحتياطي التي جرت تعبئتها للعملية العسكرية جزءاً معتبراً من العاملين بالقطاع.
وإن لم تنجح إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية وإنهاء الارتباك الأمني بشكل مُقنع لمستثمريها ومستوطنيها؛ فمن المُرجح تحوّل هذه الآثار من تذبذبات عَرضية عابرة إلى اتجاهات طويلة الأجل، يتراجع ضمنها الاستثمار والطلب؛ بانكماش الاستثمار الأجنبي وخروج الشركات متعددة الجنسيات من إسرائيل كما حذّر كبير العلماء بمركز الأبحاث والتطوير التابع لمايكروسوفت بإسرائيل.
كذا يتقلّص ضمنها رأس المال البشري؛ مع هروب الكفاءات والعقول في ضوء ارتفاع الطلب على عمالة هذا القطاع وسهولة هجرتها إلى الخارج، والتي ستتزايد منطقياً في سياق معدلات هجرة عكسية متصاعدة بالفعل.
ورغم أن متوسط المساعدات الأجنبية للفرد الإسرائيلي هو الأعلى في العالم؛ بما ساهم دوماً في قوة الاقتصاد الإسرائيلي وارتفاع مستوى المعيشة؛ ومن ثم جاذبيته للهجرة.
ومن ثم فإن الاضطرابات المتزايدة ستمارس ضغوطاً مزدوجة على المساهمة الاقتصادية لهذه المساعدات، أولاً من جهة الخسائر والتكاليف التي ستستهلك حصة متزايدة منها، وثانياً من جهة التقلّص النسبي لها مع تزايد فضائح الإجرام الإسرائيلي بحق الفلسطينيين والتراجع النسبي للدعم الغربي لإسرائيل.