حرب من نوع آخر تدور في سورية، بين حكومات متعددة تطرح أسعاراً مختلفة من أجل اقتناص أكبر كمية ممكنة من القمح الوفير هذا العام بهدف تأمين رغيف الخبز بأقل تكلفة ممكنة، كما يسعى المحتكرون من التجّار إلى اقتناص نصيب أكبر من الأرباح على حساب المزارعين.
ويعود آخر موسم حبوب وفير في سورية إلى عام 1988، أي أن الفلاحين انتظروا أكثر من أربعين عامًا، بينها مواسم عجاف كثيرة. لكن حكومات سورية الأربع: النظام، "قسد"، الحكومة المؤقتة، الجبهة الشامية، لم تتفق على سعر موحد للقمح، أو سعر يُنصف جهد الفلاح.
نصف القمح المنتج من النوع القاسي، والذي يقدر إنتاجه بـ350 ألف طن في المناطق الخارجة على سيطرة النظام. هذا النوع هو المرغوب، الذي أعلنت حكومات سورية الأربع عن رغبتها في شراء كميات قليلة منه.
وطرح مراقبون تساؤلات مهمة في هذا الإطار: لماذا القمح القاسي فقط هو ما تريد شراءه هذه الحكومات، ولماذا لا ترى هذه الحكومات في مزارعي القمح مواطنين لهم حقوق المساندة في كانتوناتها؟ وما علاقة تركيا بهذا الأمر؟
موسم وفير
تشير مصادر في الحكومة المؤقتة إلى أن الإنتاج المتوقع هذه السنة قد يصل إلى 350 ألف طن من القمح القاسي، وأكثر من ذلك بكثير بالنسبة للقمح الطري الذي يُستخدم لإنتاج الخبز في سورية، عدا عن كمية مكافئة من الشعير لمجموع إنتاج القمحين القاسي والطري.
المصادر ذاتها تشير إلى استحالة توفير 90 مليون دولار لشراء كامل الكمية المتوقع إنتاجها من القمح القاسي.
"في هذه السنة، لبّت السماء دعاء المزارعين". هكذا يقول المزارع علي الحمزة وهو يراقب الحصادة تلتهم سنابل القمح لتحيلها كومة ذهبية من الحبوب، مضيفاً: "فرحتي بهذا اليوم الذي انتظرته طويلا منقوصة، فأين سأبيع محصولي؟". وهذا لسان حال غالبية مزارعي منطقة "نبع السلام"، من تل أبيض غربًا، وحتى رأس العين شرقًا.
يعاني المزارعون في تل أبيض في مواسم الحصاد، بشكل عام، من تحكّم تجار المحاصيل، ولا سيما محصولي القمح والشعير، حيث يفرض التجار السعر الذي يناسبهم. وما يزيد الأمر سوءًا سياسة المماطلة من المجلس المحلي حيال سلسلة الشكاوى المقدمة من المزارعين، ما يشكل أكثر من علامة استفهام حول الأدوار التي يفترض به تأديتها، وعلى رأسها حماية المزارعين عن طريق قوانين ضابطة لسوق البيع والشراء.
لا تُناط بالمجالس المحلية عملية استلام أو شراء محاصيل القمح والشعير من المزارعين، فهذا الأمر ليس من مهامها، وإنما هي جهة تقدم الخدمات العامة للمواطنين، فلماذا تطرح نفسها كجهة "تجارية" لشراء المحاصيل! في الوقت الذي يفترض أن يكون الأمر مرتبطًا بالمؤسسة العامة للحبوب؟
هذا التداخل في المهام يترك الباب مفتوحًا أمام مساءلة المجالس ودورها في اتفاق المؤسسات وكبار التجار على وضع شروط البيع بأسعار تناسب مستويات الربح لديهم من دون النظر إلى الحد الأدنى من مصلحة المزارعين. مع الإشارة إلى أن عملية شراء المحاصيل تتحرك وفق آلية الشراء بسعر منخفض، ومن ثم البيع في السوق المحلية، والسوق التركية كذلك، بسعر يتضاعف مرات.
جهات عدة وأسعار مختلفة
في ظل تصاعد شكاوى المزارعين، تصدر جهات عدة إعلانات لشراء الحبوب. فـ"الجبهة الشامية" سوف تشتري الحبوب عن طريق "شركة السنابل"، و"الحكومة المؤقتة" سوف تشتريه عن طريق "مؤسسة الحبوب".
بينما أعلن المجلسان المحليان في كل من تل أبيض ورأس العين عن رغبتهما في شراء 30 ألف طن من القمح القاسي.
كل هذا يجري وسط غياب سعر رسمي يُفترض أن يصدر عن وزارة المالية في "الحكومة المؤقتة"، أو حتى عن طريق أي جهة من الجهات المذكورة آنفًا.
وزير المالية في الحكومة المؤقتة، عبد الحكيم المصري، قال لـ"العربي الجديد": "سوف نبدأ باستلام القمح اعتبارًا من الغد، وبكمية أولية تقدر بـ 35 ألف طن، قابلة للزيادة حسب الطاقة الاستيعابية". أضاف: "بالنسبة للتسعير، نحن في انتظار اقتراح مؤسسة الحبوب، المتوقع صدوره مطلع الأسبوع المقبل".
وبيّن المصري أن المزارعين سوف يستلمون مستحقاتهم كافة بالدولار الأميركي، وفي مدة لا تتجاوز الثلاثة أيام من تاريخ توريد محاصيلهم إلى مراكز الاستلام.
من جهته، قال لـ"العربي الجديد" وزير الزراعة في الحكومة المؤقتة، هايل كلش، إن وزارة الزراعة مستحدثة قبل سبعة أشهر، لذلك وخلال هذه الفترة القصيرة وضعنا خطة إحصائية زراعية سنبدأ بتنفيذها فور الانتهاء من تسويق موسم الحبوب الحالي. أضاف: "لا نملك الآن أرقامًا دقيقة حول المساحات المزروعة هذا الموسم، ولكن نقدرها بحوالي 302500 دونم من مجمل منطقة "نبع السلام"، منها 144500 دونم في تل أبيض، و79000 دونم في رأس العين، وبتقدير إنتاجي 180000 طن من القمح".
المدير العام لمؤسسة الحبوب التابعة للحكومة المؤقتة، حسان محمد، قال إن "من أهم أهداف مؤسسة الحبوب وأولوياتها مصلحة المزارع في الحصول على هامش ربح يدفعه للاستمرار في زراعة القمح، وكذلك الحفاظ على أنواع القمح السوري المشهورة عالميًا".
وأوضح لـ"العربي الجديد": "من أجل ذلك تعمل المؤسسة على تسهيل كافة الإجراءات العملية أثناء استلام القمح، والحرص على سلاسة وسرعة الشراء، وصولًا إلى دفع المستحقات، حيث تتم عمليات التحليل والتسعير وفق الدرجات المعتمدة وطنيًا وعالميًا، ووفق الأسعار الصادرة عن الحكومة المؤقتة"، مضيفًا أن المؤسسة ستستلم القمح المعبأ في أكياس فقط، لعدم وجود الصوامع المعدة لتخزين القمح، وأنهم سوف يستلمون القمح في مركز واحد في تل أبيض، وآخر في رأس العين.
غياب التنسيق
في ظل غياب التنسيق بين مؤسسات الحكومة المؤقتة، أعلن كل من مجلسي تل أبيض ورأس العين في بيانين منفصلين عن نية كل منهما شراء كمية 30 ألف طن من القمح القاسي حصرًا، من دون أن يوضحا في بيانيهما السعر، أو آليات الفحص والتجريم، أو توافر البنى التحتية لذلك!
من جهتها، أيضًا، أعلنت شركة السنابل التابعة للجبهة الشامية نيتها أيضا شراء 25 ألف طن من القمح القاسي. ويأتي هذا التنافس بنيّة حصول بعض الأطراف المذكورة على ربح من عملية بيع هذه الحبوب إلى السوق التركي، على الرغم من صدور قرار من الحكومة التركية نشر في الجريدة الرسمية في 25 إبريل/ نيسان الماضي بفرض ضريبة بقيمة 130% على القمح والشعير المستوردين من خارج تركيا. والقرار دخل حيز التنفيذ اعتبارًا من 1 مايو/ أيار الماضي، حسب الجريدة نفسها، مستثنى منه "القمح المعاد تصنيعه للتصدير"، أو كما يسمى في سوق القمح التركي بـ"البلغا".
و"البلغا" أحد أهم أسباب غياب السعر، لأن شراء صنف القمح القاسي مربح جدًا، وهذا لا ينطبق على القمح الطري الوفير في تركيا، كون القاسي يدخل في عملية إعادة التصنيع، عكس القمح الطري المعد للطحن والاستهلاك.
وبما أن القمح القاسي السوري هو من أجود أنواع القمح الموجودة في العالم، تخطط بعض الفصائل والجبهات والمجالس المحلية لإدراج شراء القمح القاسي فقط، وبسعر يحدد بناء على نسب الربح العالية. وبما أن هذا القمح مستثنى من قرار الحكومة التركية في الاستيراد، فإنه يورد إلى السوق التركي بأضعاف مضاعفة عن السعر الممنوح للمزارعين. وهذه آلية تنسيق واضحة بين الفصائل والجبهات وبين التجار المتحكمين بالسوق التركي.
قلق المزارعين
يدعم ما ذكرناه سابقًا ما يقوله المزارع عواس الشبلي: "كما ترى، فإن الموسم هذه السنة "خرافي"، من حيث الإنتاج. لم نشهد مثل هذا الموسم منذ عام 1988، لكننا، ورغم الوفرة، لا نشعر بالطمأنينة، لعدم وجود جهة واحدة ذات سعر واحد نورد حبوبنا إليها"، ويضيف: "لم تدعمنا أي من الجهات التي جهزت نفسها لشراء مواسمنا بمستلزمات الإنتاج، بل على العكس، فرضوا علينا ضرائب عندما استوردنا البذار، وضرائب على الأسمدة، وتاجروا بمازوت الآليات الزراعية. وها هم اليوم يستعدون لمحاصصتنا. أما الشعير الذي يشكل نصف الأراضي المزروعة فلا أحد من هذه الجهات يفكر في شرائه.
أعلنت شركة السنابل التابعة للجبهة الشامية نيتها أيضا شراء 25 ألف طن من القمح القاسي.
إن كل الكميات المعلن عن شرائها من قبل الجهات المذكورة لا تصل إلى أقل من نصف الإنتاج المتوقع، ليبقى المزارع ينظر إلى بورصة المزايدين على موسم محصوله".
أسعار الحكومات
يحدث هذا كله في الوقت الذي يراقب فيه مزارعو تل أبيض ورأس العين أسعار المحاصيل في المناطق المجاورة. فنظام الأسد حدد سعر الطن من القمح بنوعيه القاسي والطري بـ 2800000 ليرة سورية، وهو ما يعادل 350 دولاراً، وحددت حكومة "قسد" سعر الشراء بـ 430 دولاراً للنوعين، ولكنها لا تشتري من المزارعين، بل من وكلاء لهم. أما حكومة الإنقاذ في إدلب فحددت سعر الطن من القمح القاسي بـ 320 دولاراً، والطري بـ 300 دولار للطن الواحد.
ولم يصدر أي "تسعير" رسمي موحد للحبوب، في الوقت الذي تتداول فيه أنباء تقول إن الجبهة الشامية "الفصيل الأكثر نفوذًا في المنطقة"، تحضّر نفسها لشراء محاصيل الشعير والقمح بالطريقة ذاتها التي استخدمها مسؤولو "قسد" خلال سنوات السيطرة على المنطقة، وهي ترْك ساحة شراء محصولي الشعير والقمح للتجار "كواجهة" لها، من دون تقديم خيار الشراء المباشر من الفلاحين، وسط غياب "يبدو أنه متفق عليه"، أو أنهم "مجبرون عليه"، من الجهات جميعها، لتنفيذ تلك الآلية من الشراء.